عندما تكون مطمعاً لكل طامع، عليك أن تؤمن حقوقك بكل وسيلة ممكنة، وتبني التحالفات والشراكات التي تقوّي بها ساعدك، وتسند عليها ظهرك. ودول الخليج قبل اكتشاف النفط، كانت المياه الدافئة التي يطمح الروس للوصول اليها، والمضائق والممرات البحرية الاستراتجية التي يتنافس عليها الشرق والغرب.
ولأن بريطانيا العظمى سبقت وهيمنت على الخليج العربي والبحر الأحمر ومضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس، حتى منتصف القرن العشرين، ولأن الولايات المتحدة الأميركية ورثت هذا الحضور بعد الحرب العالمية الثانية، ودعمته بالشراكات الاستراتجية مع دول الخليج العربية وإيران، التي عُرفت بـ"الأمن مقابل النفط"، فقد بقيت المنطقة أكثر ارتباطاً بالمعسكر الغربي خلال الحرب الباردة، وحافظت بعدها على علاقاتها القوية مع الغرب الرأسمالي مع انفتاح اقتصادي متدرج على الشرق الاشتراكي.
الخذلان الأميركي
إلا أن تخلي أميركا وحليفتيها فرنسا وبريطانيا عن حليفها الخليجي الأكبر، الشاه، وتسليم إيران للثورة الخمينية، على تفاهم سري سرعان ما تحول الى عداء علني، وتهديد شامل للعرب، نبه دول الخليج الى ضرورة تنويع علاقاتها الدولية، فبدأت منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي انفتاحاً أمنياً وعسكرياً متزايداً على الصين وروسيا.
وفي عام 2010 نضج مشروع أميركي بعد حوادث أيلول (سبتمبر) 2001 وهيمنة المحافظين الجدد على صناعة القرار في البيت الأبيض، لإعادة صياغة المنطقة، ورسم خريطتها الجيوسياسية، سمّي بـ"الفوضى الخلاقة". ويقوم المشروع على "تفوير" الشعوب، باسم الديموقراطية وعدالة توزيع الثروة والسلطة، ضد الأنظمة القائمة، ومن بينها حلفاء واشنطن، دول الخليج العربية ومصر والأردن وتونس والمغرب، مع استثناء إيران وتركيا!
وفي عهد الرئيس باراك أوباما، تطور المشروع بالتحالف مع إيران وتركيا وحلفائهما العرب لتقسيم "الولاية" على دول المنطقة بين الولي الفقيه في منطقة الهلال الخصيب، والسلطان العثماني الجديد في بقية العالم العربي.
وخلال المرحلة الأوبامية تكشّفت مؤامرة أخرى للتصالح مع إيران وتمكينها من خلال الاتفاق النووي الذي بقيت مفاوضاته سرية لسنوات، تنازلت الإدارة الأميركية خلالها عن العديد من ثوابت علاقاتها العربية، وفصلت الاتفاقية المعيبة عن ممارسات إيران المهددة للسلام وبرنامجها الصاروخي. واليوم تهرول إدارة بايدن نحو الاتفاق ذاته الذي انسحبت منه إدارة ترامب عام 2018، بتسرّع يثير التوجس.
هذه التجارب كانت معلّمة، وموقظة. فقد تنبهت دول الخليج الى خطورة الاعتماد على حلفائها التقليديين في الغرب، وضرورة تقوية القدرات الذاتية، والتحالفات العربية والإسلامية، وتنويع مصادر التسلح والتعاون العسكري مع كل الدول، خصوصاً روسيا والصين.
العلاقات الخليجية – الصينية
الحضورُ الصينيُ في منطقة الخليج بدأَ متأخراً. ولكن بعدَ زيارةِ الرئيسِ الأميركيِ ريتشارد نيكسون لبكين في عام 1972 وإقامةِ علاقاتٍ دبلوماسيةٍ مع التنينِ الصينيِ، انفتحَ الباب على مصراعيِهِ للدولِ المتحالفةِ مع المعسكرِ الغربي. واليوم، تعد دول الخليج مصدراً أساسياً من مصادر الطاقة للصين، وبيئة مربحة لاستثماراتها. ولا تزال بكين بحاجة إلى إمدادات النفط والغاز من دول الخليج العربية بكميات تغطي نحو 60 في المئة من حاجاتها.
وفي منتصفِ الثمانينات من القرن الماضي قامَ الأمير بندر بن سلطانَ بزيارةٍ للصين تمَ خلالَها عقدُ صفقةٍ سرية لتزويد المملكة بصواريخ باليستيةٍ لمواجهةِ خطرِ الصواريخ الروسيةِ والكوريةِ الشماليةِ خلالَ الحربِ العراقيةِ الإيرانيةِ. التعاونُ العسكريُ فتحَ أبوابَ التعاونِ التجاري والاستثماري ودخول الشركاتِ الصينيةِ في مجالِ البناءِ والتعميرِ كشريكٍ فاعلٍ في مشاريعَ التنميةِ الخليجية الطموحة.
وفي العقدينِ الأخيرينِ، ومع صعودِ الصين كقوةٍ إقتصاديةٍ كبرى، اتسعتْ مجالاتُ التعاونِ مع دول الخليج العربية في الاستثماراتِ المشتركة، والمباشرة، والتعاون في مجالِ العلومِ والتقنيةِ والفضاء، والمشاركة العسكرية البحرية في حمايةِ المضائقَ والخطوطِ الملاحيةِ في الخليجِ والبحرِ الأحمرِ، ولعل العنوان الأبرز، مشروعِ القرنِ (الحزام وطريق الحريرِ).
الشراكة الاقتصادية
وخلال زيارة الرئيس الصيني، شي جينبينغ، التاريخية للإمارات، عام 2018، وهي الأولى لرئيس صيني منذ 29 عاماً، أعلنت أبو ظبي وبكين اتفاقهما على تأسيس شراكة استراتيجية شاملة في 8 محاور بينها سياسية وعسكرية. كما شددت المباحثات بين البلدين على أهمية تعزيز التعاون وتبادل المعلومات والخبرات في مواجهة الإرهاب، ومواجهة الانتشار النووي؛ إلى جانب زيادة تعزيز التعاون والاستثمارات المتبادلة في مجالات الطاقة المتجددة، والمياه، والنفط والغاز.
وتعد الصين الشريك التجاري الأول للإمارات بنحو 53.3 مليار دولار سنوياً من التجارة غير النفطية. ويخطط البلدان لبناء أكبر مركز صيني في الشرق الأوسط مقره الإمارات، التي بلغت صادراتها النفطية إلى الصين، خلال 2017، أكثر من 4 مليارات دولار.
والكويت أيضاً محطة مهمة لتنامي العلاقات العربية الصينية، إذ تعد الصين الشريك التجاري الرئيسي للكويت بحجم تبادل تجاري بين البلدين تعدى الـ 12 مليار دولار في 2017، وهي أول دولة عربية استثمرت في الصندوق السيادي الصيني بمبلغ 10 مليارات دولار منذ 2005، ومن أوائل الدول الموقعة على مبادرة "الحزام والطريق". وتعمل في الكويت قرابة 40 شركة صينية في قطاعات النفط والبناء والبنى التحتية.
تراجع الغرب وتقدم الشرق
الصين إذاً تعمّق وجودها في المنطقة، وتعمل على توسيع أنشطتها ذات الطابع الاقتصادي، عبر تقديم خدمات أقل كلفة، لجذب المزيد من الصفقات، وفتح الأسواق أمام سلعها واستثماراتها المليارية. وخلال الفترة الرئاسية الثانية للرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، شكل تراجع الولايات المتحدة عن دورها في المنطقة فرصة للصين وروسيا لتسجيل حضور فاعل متعدد البعد؛ اقتصادي وسياسي وعسكري.
ولعلَ تزايد البعثات الدراسية السعودية للصين، واعتماد تدريسِ اللغةِ الصينية في المدارسِ الحكوميةِ والجامعاتِ السعوديةِ له دلالات رمزيةُ مهمةُ على مستوى التطور في العلاقاتِ البينيةِ ورؤيةِ السعوديةِ والخليجِ لموقعِ الصين على الخريطة الدولية.
ولكن رغم الجهود الصينية الكبيرة لتعزيز تواجدها وشراكتها مع المنطقة العربية، لا يبدو واضحاً على المدى القريب أن النفوذ الصيني في المنطقة سيغلب النفوذ الغربي. إذ لا تزال الدول العربية الحليفة، ومنها الكتلة الخليجية، بحاجة إلى المظلة الأميركية بخاصة والغربية بعامة، لمواجهة مهددات الأمن الإقليمي. وتركز الولايات المتحدة على تعزيز مصالحها الإقليمية في منظومة دول مجلس التعاون عبر جهود مشتركة في مكافحة الإرهاب، والقرصنة البحرية، والتصدي للنفوذ والتهديدات الإيرانية بالمنطقة.
توازن العلاقات الدولية
انتهجتْ الدولُ الخليجيةُ في العقودِ الثلاثةِ الأخيرة سياسة جديدة تقومُ على الانفتاحِ الواسعِ تجاهَ دولِ العالمِ، بما يحققُ مصالِحَهَا السياسيةَ والاقتصادية والتنمويةَ والأمنيةَ.
ورغمَ أنَّ شراكتَها الاستراتيجية مع الغربِ ما زالتْ هي الغالبةُ، إلا أنَّ الميدانَ باتَ مفتوحاً لكلِ أعضاءِ منظمةِ التجارةِ العالميةِ، خصوصاً الدول الصناعية الكبرى، المؤثرة والقادرة على تلبية حاجات التنمية والدفاعِ وحماية حقوقِها ومكانتِها الدولية، كالصين واليابان وكوريا الجنوبيةِ والهند وروسيا والبرازيل وغيرِها من أعضاءِ مجموعةِ العشرين والدولِ الصناعيةِ السبعِ.
ومع الأهميةِ الوازنة للحلف العسكري مع الولاياتِ المتحدة، إلا أن الساحةَ تشهدُ توازناً استراتيجياً جديداً على أساسِ المصالحِ المشتركةِ وصلابةِ المواقف وصدقية التعهدات. ولعلَ بعضَ التجاربِ السلبيةِ معَ الولاياتِ المتحدةِ، بخاصة في عهدِ الرئيسينِ جورج بوش "الإبن" (بعدَ حوادث أيلول (سبتمبر) 2001 ومشروعِ الفوضى الخلاقة) وباراك أوباما (بعد الربيعِ العربيِ والملفِ النوويِ والاتفاقاتِ السرية مع إيران)، تُحفّزُ دول المنطقةِ على توزيعِ مصالحِها على سلالٍ متنوعةٍ، والاعتماد أكثرَ على تنميةِ قدراتِها وتوحيدِ مقدّراتِها وتطويرِ تحالفاتِها العربيةِ والإسلاميةِ لمواجهةِ المخاطرَ والتقلباتِ السياسيةِ والمواجهاتِ المحتملة بينَ القوى الإقليمية والدوليةِ على ساحاتِ الخليج.
ومن بين التحالفات المستجدة، التحالف العسكري الإسلامي لمحاربة الإرهاب، ويضم عشرات الدول الإسلامية، من بينها دولة نووية، هي باكستان، وعضو في الناتو، تركيا. ومن ضمن التطورات في هذا الإطار، التعاون العسكري مع روسيا والصين، بدءاً بمجال التصنيع العسكري، ووصولاً إلى التدريبات المشتركة.
وهكذا يبدو مستقبل العلاقات الدولية لدول الخليج العربية، واسعاً، متنوعاً، متجدداً، ومتوازناً. وعلى الراغبين في المشاركة المثمرة للعقود المقبلة، أن يلتزم نصاً وروحاً بأنظمتها وقوانينها الجديدة.