غسان صليبي
محقّ انت يا سيد نصر الله عندما تدعو إلى طاولة حوار اقتصادي لمعالجة الأزمة الماليّة والاقتصاديّة المتفاقمة يوماً بعد يوم. لكن تلبية هذه الدعوة وجعلها تثمر، تتطلّب منك الأخذ في الاعتبار الأمور الآتية:
1- لا تستطيع أن تدعو الى حوار اقتصادي، وفي الخطاب نفسه، تهدّد بالحرب مع إسرائيل، حتى ولو هاجمت اسرائيل كما قلت، أطرافاً مسلّحين غير لبنانيّين، موجودين على أرض لبنان. هذا لا يصح مع ذاك يا سيّد نصر الله. وإذا كان من حقّك ان تخفي عن إسرائيل أسرار تفجيرات حصلت داخلها وتتهمك بها، فلا يحقّ لك في المقابل إخفاء ذلك على السلطة السياسيّة اللبنانيّة التي تطالبها بمعالجة الوضع الاقتصادي. فالاقتصاد هو اقتصاد سياسي، وربما يكون ذلك من الدروس الماركسيّة القليلة التي حفظها بعض أصدقائك الشيوعيين، رغم انهم لا يطبّقونها عندما يبررون كل سياسات حزبك. وفي الوقت الذي تنتقد خصومك بأنهم لا يريدون الحوار إلاّ حول سلاح المقاومة، ها أنت تثبت صحة موقفهم، وأنت تطالبهم بالحوار الاقتصادي فيما لا تتوقّف عن التهديد بالحرب.
2- تقول في خطبتك حرفيّاً: "انه في الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب وحركة الدولار، الدولة لا تستطيع القول إنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً، هناك تدابير يجب ان تتّخذ وتستطيع أن تخفف. مصير البلد متروك، وكلما تحدّث أحد يقولون قانون النقد والتسليف والموضوع عند حاكم المركزي، هذه مسؤوليّة كل القوى السياسيّة". جيّد ان تقرّ بــ"المسؤوليّة السياسيّة" وأنه في الإمكان اتخاذ تدابير لتخفيف وطأة الأزمة، لكنّك تعود و"تُضيّع" المسؤولية، مؤكّداً انها "مسؤوليّة كل القوى السياسيّة في البلد". صحيح ان "كل القوى السياسيّة" ساهمت في إيصال الوضع الى ما نحن فيه، لكن الجهة التي تستطيع اتخاذ التدابير التي تطالب بها، أي السلطة الحاليّة، لا تضم "كل القوى السياسيّة" بل تضم حصريّاً حلفاءك من القوى السياسيّة. لقد حمى حزبك هذه السلطة يا سيّد نصر الله عندما حاولت الانتفاضة هزّ أركانها، وتحكّمت بالمفاصل الرئاسيّة والحكوميّة الرئيسيّة خلال عهد عون، وأنت تشرف اليوم على مسار الانتخابات الرئاسيّة واجتماعات المجلس النيابي والحكومة، وبالتالي تقع عليك المسؤوليّة الأولى في جعل هذه السلطة تتّخذ التدابير اللازمة لتخفيف معاناة الناس.
3- إن المعالجة الاقتصاديّة تتطلّب استخدام مصطلحات اقتصاديّة وليس دينيّة يا سيّد نصر الله، كما تتطلّب النظر الى الاقتصاد اللبناني كوحدة كليّة من دون اقتصاديات موازية غير رسميّة. لا أقصد فقط "مؤسّسة القرض الحسن". فقد تقدّم "الثنائي الشيعي" أخيراً بمشروع قانون تحت عنوان "قدسيّة الودائع"، ممّا يوغل في هذا النهج الذي يتعاطى مع السياسة والاقتصاد، بمفاهيم دينيّة، لا تساهم إلاّ بإضعاف علمية وموضوعيّة المعالجات، فضلا عن إدخالها على النقاش، تعابير تصعِّب على المتحاورين الفهم المشترك والتوصّل الى إقرار معالجات عمليّة، في إطار لغة ونظرة وطنيّة مشتركة.
ليست المرّة الأولى التي تُقحَم "القدسيّة" في الشؤون الماليّة والسياسيّة والعسكريّة، وهي محاولة لإعطاء صدقيّة دينيّة لما يُطرح من أفكار ومشاريع، وبحيث تصبح هذه المشاريع غير قابلة للنقاش. لكن ما تبادر الى ذهني عندما قرأت تعبير "قدسيّة الودائع"، في ظل شكوك متعاظمة عند المودعين حول إمكان استعادة ودائعهم، معاكس تماماً للصدقيّة. فإما المقصود أن الودائع أصبحت "مقدّسة"، وبالتالي ممنوع "لمسها" لـــ"قدسيّتها"، حتى من أصحابها، او أن "قدسيّتها" تبرّر عدم معرفة عنها أي شيء، مثل الأسرار التي تحيط عادةً بكل المقدّسات.
4- الحوار الاقتصادي الذي تدعو اليه يا سيّد نصر الله، لا يمكن ان يشبه الحوار السياسي من حيث طبيعة أطرافه. فالحوار المطلوب هو اقتصادي – اجتماعي وليس اقتصادياً بحتاً، والأزمة متكاملة، اقتصاديّة واجتماعيّة. والحوار الاقتصادي – الاجتماعي من اختصاص الأطراف المعنيين بالوضع الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما نسمّيه عادةً "الحوار الاجتماعي الثلاثي" الذي يضم الدولة وممثلي العمّال وأصحاب العمل. وفي الأزمات الكبرى، لا يمكن معالجة الوضع من وجهة نظر طرف واحد، هي السلطة، لا سيّما انها لا تحظى بثقة، لا العمّال ولا أصحاب العمل. هناك إطار للحوار الاجتماعي الاقتصادي إسمه "المجلس الاقتصادي الاجتماعي"، لكنّه للأسف تحوّل الى منصّة للآراء المختلفة، بدل ان يشكّل طاولة مفاوضات بين الأطراف الثلاثة، للوصول الى سياسات اقتصاديّة اجتماعيّة مشتركة، أهمّها اليوم ما يُعرف بــ"خطّة التعافي" التي تتفرّد السلطة، وحتى أجزاء منها، بطرح مشاريع متبدّلة دوريّاً.
يمكن لهذا المجلس الاقتصادي الاجتماعي، أو غيره، أن يكون إطاراً للحوار الذي تنادي به يا سيّد نصر الله، فهو يمثّل الكثير من الفئات الاجتماعيّة، حتى ولو جاء التمثيل للاسف على أسس حزبيّة ومذهبيّة، كما هي حال المجلس اليوم. ولا بدّ من إضافة أطراف آخرين الى هذا الحوار الثلاثي المطلوب، لا سيّما أولئك غير الممثّلين حاليّاً، والذين يطرحون قضاياهم باستمرار في الشارع. فهؤلاء هم المحاورون الأحقّ بالجلوس الى طاولة الحوار التي تطالب بها يا سيّد نصر الله. فهل تمارس "مونتك" على السلطة التي تحميها، لحثها على مباشرة حوار جدي مع هؤلاء، ومع الجهات الاقتصاديّة والسياسية والإداريّة المطلوب منها إقرار مطالبهم.
أمّا بالنسبة لهؤلاء المناضلين الذين يثابرون على التظاهر والاحتجاج في الشارع، فأعتقد انه حان الوقت لكي يقتنعوا، بأن لا الثورة ممكنة في ظل موازين القوى الحالية، ولا المعالجات القطاعيّة كافية في أزمة شاملة بهذا الحجم. مطلوب منهم وبإلحاح، التفاوض مع السلطة على معالجات شاملة تبدأ بخطّة التعافي، وبحيث يصبحون، أحد الأطراف الأساسيّين الذين يفاوضون أيضاً صندوق النقد الدولي، أو على الأقل يجعلونه يأخذ أطروحاتهم في الاعتبار، لا سيما بعدما عبّر أخيراً عن استيائه التام من السلطة الحالية.