ما كدنا نتفاءل بمستقبل العرب والمنطقة بعد الحراك العربي الذي تقوده الرياض لتفكيك ألغامها، وتحرير مسار السلام، وقيادة قطار المصالحة، حتى اشتعلت نيران الحرب في السودان، بعد أيام مباركة في شهر رمضان الفضيل، تماوجت فيها آمال السلم في صنعاء وعدن، والصلح في طهران ودمشق وغزة، والتعاون مع القاهرة وعمان وبغداد، وعواصم الخليج العربي.
شروق السلام وغروبه
وبعد أن كدنا نرى بوادر زمن عربي جديد يشرق في قمة العرب بالرياض الشهر المقبل، تسوده ثقافة الوحدة والتماسك والتعاون لمواجهة الأعاصير الدولية، والمؤامرات الأممية، والصراعات البينيّة، ها نحن نشهد بكلّ ألم قتال الأشقاء في شوارع الخرطوم وفوق رؤوس سكّانها، وعلى مطاراتها وموانئها وقواعدها الأمنية والعسكرية.
وبينما كان عباد الرحمن يصومون الأواخر، ويقومون الليل، وينشدون ليلة القدر، ثمّ يحتلفون بعيد فطرهم السعيد، كان إخوانهم وأخواتهم يختبئون في بيوتهم خوفاً من القصف العشوائي بين حماتهم، ويبحثون عن علاج في مستشفيات خاوية، ويخشون يوماً لا يجدون فيه ماء ولا طعاماً ولا كهرباء ولا شبكة اتصال. أمّا من تمكّن منهم من الهرب خارج المدينة المشتعلة فلا درب آمناً ولا مقصد مأموناً؛ فالبلاد كلّها مسرح حرب.
بين الجيش والميليشيا
ما الذي جرى؟ ومن يقف وراء هذا التصعيد؟ وهل كان مفاجئاً حقاً أم فوق مسرح العرائس أياد تحرّكها، تجمعها تارة، وتصادمها أخرى، وتدّعي حسن المقصد، وتخفي سوء الغاية وبشاعة الوسيلة؟! وماذا يريدون؟! ذهب السودان ومعادنه أم نفطه وغازه، أم موانئه وجزره، أم أنه صراع الغيلان على الساحة الجيوسياسية؟!
سألت أصدقائي السودانيين، فغلّفت الحيرة والصدمة والحزن أجوبتهم. نعم، يعلمون أن السلطة والموارد والولاءات الخارجية أسباب للخلاف، ولكن لم يسعهم أن يتوقعوا حرباً أهلية من أجلها. وبقدر ما يحترمون جيشهم الوطني، ويرفضون المليشيات المتمردة، إلا أنهم يقرّون لها بولائها لقادتها، وبتمرّسها في حرب المدن، ويأخذون على الجيش بعض فساد وانقسام وتفكّك.
الثقة المفقودة بين الحاكم والمحكوم
وبقدر ما يفضّلون الجيش لأنه يمثل كافة الطبقات والأعراق والأقاليم الوطنية، ويبغضون في مليشيات الجنجويد عنصريتها العرقية، وحقدها الطبقي والمناطقي على أهل العاصمة والمدن، إلا أنهم يدركون بأن من جاء بها هم قيادات الجيش أنفسهم، مرّة ليحاربوا بها المتمردين في دارفور، وأخرى للانقلاب على نظام البشير، وثالثة لمواجهة المظاهرات والتمرّد في المدن، بل هي مَن منحت عناصرها الشرعية والرتب العسكرية الكرتونية، وأوصلتهم إلى أعلى هرم السلطة، ومكّنتهم من التمركز في العاصمة وحولها.
لقد كانت الثقة مهزوزة بين السلطة والشعب خلال عقود من الزمان، منذ الاستقلال عن المستعمر الإنكليزي، في عام ١٩٥٦، والانفصال عن مصر. فقد حكم البلد الذي كان يُضاهي أفضل بلدان أفريقيا تطوّراً في التعليم والتنمية والحريّات عسكراً وشيوخ طريقة أضاعوا كلّ ما حقّقته البلاد من طفرات حضارية، وأعادوا عجلة الزمن إلى الوراء، وحوّلوا البلد التقدّمي الغنيّ بموارده الطبيعية والبشرية إلى أدنى مراتب الرجعيّة والتخلّف والفقر.
عاصمة الانقلابات
وكان الجيش في كلّ هذه المراحل إمّا في كرسي الحكم أو وراءه. انقلاب وراء آخر أتى بمَن لم يُكملوا تعليمهم النظاميّ، ولا بلغوا أعلى مراتب العسكرية، (ما عدا المشير عبدالرحمن سوار الذهب الذي استلم الرئاسة من قيادة عسكرية، انقلابية، وسلّمها لقيادة وطنية منتخبة بسلام).
وفشل الجميع في التخلّص من ارتباطاتهم العقدية والعسكرية والحزبية ومصالحهم الشخصية والشللية، فحملوا رايات الحرب الأهلية نصف قرن، ثمّ سلموا نصف البلاد إلى ثوار الجنوب ومن وراءهم من المنظمات الكنسية والعواصم الغربية، ومعها الكثير من آبار النفط والموارد الزراعية والمائية والمعدنية.
غرام الأفاعي
ماذا يريد محمد حمدان دقلو "حميدتي"، الذي لم يدخل كلية عسكرية ولا جيشاً نظامياً، وارتقى من تجارة الإبل وقيادة ميليشيات قبلية إلى رتبة "فريق أول" بقرار سياسي؟! وهو صاحب مناجم الذهب الذي تحالف مع منظمة الارتزاق الدولي، فاغنر الروسية، فحارب معهم في ليبيا، وحاربوا معه في السودان.
وماذا تريد قيادة جيش لجأت إليه للانقلاب على رئيس الدولة، ثم أوصلته إلى نائب رئيس مجلس القيادة؟ ولماذا قررت أخيراً أن تحلّ ألويته، وتضمّها إلى الجيش، وتخضع قواعده وأوكاره لسلطتها، وتطلب منه التخلّي عن قيادة من أوصلوه إلى ما وصل إليه، وتقبل منصباً تشريفيّاً في الهيكل الإداري، بلا سلطة فعلية؟
الداعمون … الخاسرون
والأهمّ، ماذا تريد الدول الداعمة للمتمرّدين؟ وأين تتحقق مصالحها في حرب أهلية لا يعلم غير الله ما تنتهي إليه؟ ولماذا تُورّط نفسها في مأزق كهذا، وتراهن على صراع كهذا، الرابح فيه خاسر؟
هل تتصوّر أن الجيش والشعب سيقبلان بانقلاب يقود إلى حكم قبيلة تعاني من عقدة التهميش، وتعيش على غنيمة الدم، وتفتقد إلى الانضباط الأخلاقي والوعي الثقافيّ والتسامح المجتمعيّ؟ وهل يستحقّ ميناء تجاريّ أو قاعدة عسكريّة أو ممرّ استراتيجيّ أو منجم ذهب كلّ هذه الدماء والدمار والنقمة الشعبية والأمميّة عليهم؟
أوهام الداعمين
وأخيراً، هل ظنّ المحرّضون، الطامحون أنّ أصحاب المصلحة في الجوار والإقليم والعالم، خاصّة المعسكر الغربيّ والحليف الصينيّ والشقيق العربيّ، سيقبلون بحكم ميليشياويّ يخدم مصالحهم ويلبّي مطالبهم ويغرّد خارج سرب النظام العالميّ الجديد؟
هل سترضى أميركا وأوروبا وإسرائيل، مثلاً، بتمدّد روسيا في قلب أفريقيا وعلى البحر الأحمر، من دون قتال؟ وهل ستتحمّل مصر قيام دولة مارقة، متحالفة مع أثيوبيا، على حدودها الجنوبية، وعلى مرمى حجر من سدّها العظيم؟
وهل سيوافق الاتحاد الأوروبي على حكم عشائريّ سلطويّ يلغي كلّ ما تمّ تحقيقه على طريق الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ وهل ستعترف جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة بمثل هذا النظام، فتشرعن التمرّد والانقلابات العسكرية التي قادتنا إلى ما انتهينا إليه؟
المخرج الوحيد
لا أعتقد. وأحسب أن حسابات المتمرّدين وحلفائهم في الداخل والخارج أسوأ من حسابات العسكر والأحزاب والجماعات المسلّحة التي قادت البلاد إلى حالها اليوم؛ وأن المجتمع الإقليمي والأممي لن يقبل بعودة إلى حال هي أسوأ من تلك التي انطلقت معها مسيرة التحوّل عن النظام السابق.
وقبل ذلك وبعده، لا أحسب أن "ناس السودان"، الذين رفضوا حكم العسكر، وثاروا من أجل العودة إلى حكم الشعب، سيتقبّلون نظاماً أسوأ من أيّ نظام رزحوا تحت حكمه منذ الاستقلال.
وفي غياب إمكانية التصالح بين المتحاربين، وفي غياهب معركة كسر العظم، والمعادلة الصفريّة للفوز، لا أرى طريقاً ممكناً للخروج من الأزمة إلا بثورة عارمة في الداخل، وبدعم لا محدود من الخارج، وبكفّ ليد العابثين و"حمّال الحطب".
* أستاذ بجامعة الفيصل
@kbatarfi