خلال ثمانية عقود شهدت العلاقات السعودية - الأميركية اضطرابات بين حين وآخر، ولكنها كانت دائماً تحافظ على حد أدنى من التوافق والتعاون، وحد أعلى من الإيمان بجدواها وأهميتها لمصلحة الطرفين، والمنطقة، والسلم العالمي.
خلافات إقليمية
ولعل أبرز الخلافات، إن لم تكن جميعها، كانت تتعلق بأطراف أخرى، وملفات خارجية. فكل بلد له مصالحه وعلاقاته الدولية التي قد لا تتقاطع بالضرورة، وربما تتضارب بين حين وحين. وفي الحالة السعودية الأميركية كان أكثر هذه الاختلافات يتعلق بقضايا إقليمية، وبخاصة الفلسطينية والإيرانية، بالإضافة الى السياسات النفطية. فدولة مؤسسة ورائدة في منظمة التعاون الإسلامية ومجلس التعاون الخليجي والـ"أوبك" والـ"أوابك" وجامعة الدول العربية والتحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، والتحالف الاسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، لا يمكنها التخلي عن دورها ومسؤوليتها تجاه حلفائها الاستراتيجيين لإرضاء البيت الأبيض.
كما لا يمكنها التهاون في الدفاع عن أمنها وأمن أشقائها أمام مهددات الأمن الإقليمي، أو التفريط بمصالحها الاقتصادية وأهم مرتكزاتها البترول، أو التنازل عن حقوقها السيادية في تنويع تحالفاتها والحفاظ على الحياد الإيجابي في الصراعات الدولية والنأي بالنفس عن التحزبات والتحالفات العسكرية والأيدلوجية.
تمحيص العلاقة
وخلال العشرين عاماً الماضية محصت هذه العلاقة كما لم تمحص من قبل. فبعد أحداث أيلول (سبتمبر) في مطلع الألفية الثانية، وانتهاج واشنطن سياسة القبضة الحديد لخدمة مصالحها ورؤيتها لخريطة منطقة الشرق الأوسط الجديد، واجهت الرياض تبعات هذه السياسة من غزو أفغانستان والعراق، الى مشروع الفوضى الخلاقة لهدم المنطقة وإعادة بنائها بحسب المفهوم الأميركي للديموقراطية والحريات والمشاركة الشعبية. كما واجهت عاصفة "الربيع العربي" ومؤامرة قلب أنظمة الحكم وتسليمها لأحزاب إسلامية مهادنة، تحت إدارة إيران وتركيا.
ورغم أن العلاقات بين البلدين عادت الى سابق عهدها تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب، إلا أنها لم تخلُ من خلافات تتعلق بضعف الموقف من مليشيات إيران في المنطقة العربية، وعدم الرد على الهجمات المباشرة على المدن ومرافق النفط السعودية والخليجية. وفي عهد الرئيس جو بايدن، بدا وكأن إدارة الرئيس باراك أوباما عادت الى مخططها بتسليم إيران إدارة بلدان عربية، العراق وسوريا واليمن ولبنان، والتسامح مع سياساتها المزعزعة للأمن والسلام في المنطقة مقابل التخلي "موقتاً" عن طموحاتها النووية، وعدم تهديدها لمصالح أميركا وإسرائيل.
شرق وغرب
وبعد عام ونصف العام من هذا المسار الذي دفع السعودية الى مزيد من تنويع تحالفاتها وشراكاتها الدولية، فوقعت الاتفاقيات الاستراتيجية المليارية والطويلة المدى في مجالات الطاقة والصناعة والعسكرية والأمن مع الصين وروسيا والهند وكوريا الجنوبية والبرازيل وجنوب أفريقيا. وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات الغربية غير المسبوقة على موسكو، والأزمات التي ترتبت عليها في مجالات النفط والغاز والغذاء والمعادن. وبعد ارتفاع التضخم الى مستويات تاريخية في أميركا، وتأثير ذلك في شعبية الإدارة والحزب الحاكم، برزت الحاجة الماسة الى التفاهم مع السعودية لدعم الموقف الغربي تجاه روسيا والصين، وإقناع منظمة "أوبك" بزيادة انتاج النفط بعد نهاية الاتفاق الحالي في آب (أغسطس) القادم.
الزيارة والتحول
الزيارة المطولة لنائب وزير الدفاع والسفير السعودي السابق في واشنطن الأمير خالد بن سلمان، لم تكن الأولى، فقد سبقتها قبل عام زيارة أخرى ساهمت في تخفيف الاحتقان ورفع مستوى التعاون الأمني والعسكري والسياسي. إلا أن الزيارة الحالية تميزت بلقاءات مكثفة مع مراكز صناعة القرار في الخارجية والدفاع والأمن القومي. وناقشت مبدأ بايدن الجديد في ما يخص أمن الخليج والتزامه "الحديدي" بتوفير احتياجات السعودية الدفاعية والوقوف معها بوضوح وجدية وفعالية لمواجهة مهددات الأمن القومي، ومن ذلك دعم موقفها في اليمن وتجاه الميليشيات الإيرانية في المنطقة.
واكب هذا التوجه تشكيل أسطول بحري من 34 دولة تقوده الولايات المتحدة، وتشارك فيه السعودية ومصر، لحفظ أمن ممرات الطاقة، في البحر الأحمر، وخليج عدن، والقرن الأفريقي، وبحر العرب وخليج عمان، وتطبيق قرار مجلس الأمن 2216 بمنع وصول السلاح والمال والخبرات من إيران و"حزب الله" لدعم تمرد الحوثي في اليمن. كما سبق ذلك عدد من المناورات العسكرية الجوية والبحرية والبرية التي شاركت فيها قوات البلدين، ووصول أسلحة وذخائر مشتراة، تأخر تسليمها لأكثر من عام.
زيارة الرئيس
والمتوقع أن تتوج هذه التحركات السياسية والدبلوماسية والعسكرية بإعلان زيارة الرئيس جو بايدن في بداية شهر حزيران (يونيو) القادم للسعودية، ولقائه العاهل السعودي الملك سلمان، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، وحضوره قمة مجلس التعاون الخليجي التي ترأسها الرياض. وبذلك يطوي البلدان صفحة خلاف لم يدم طويلاً، ويواصلان علاقة تاريخية بدأت في الثلاثينات من القرن الماضي، عندما استكملت الشركات الأميركية التنقيب عن النفط بعد انسحاب الشركات البريطانية، ونجحت في اكتشافه بكميات تجارية.
وكانت الصلات ترسخت بعد لقاء المؤسس الملك عبدالعزيز مع الرئيس الأميركي روزفلت على ظهر المدمرة كوينسي في البحيرات المرة، عام 1945، ثم إعلان مبدأ ايزنهاور في الخمسينات ومبدأ ريغان في الثمانينات لتوفير الحماية لمنابع النفط وممراته البحرية مقابل ضمان احتياجات اميركا وحلفائها في كل الظروف. وهذا الاتفاق التزمت به السعودية حتى خلال قطع النفط عن أميركا دعماً للقضية الفلسطينية بعد حرب رمضان 1973، إذ استثنت من الحظر تزويد الأساطيل والقواعد الأميركية باحتياجاتها.
العودة والتحول
ولعل أهم ما في هذه العودة الأميركية الى مبادئها في العلاقة مع السعودية أنها جاءت بعد محاولة خروج ونقض لها أثبتت فشلها. فقد وضح للمؤسسات الأميركية في الدولة العميقة بما لا يقبل الشك أن السعودية رقم صعب لا يمكن تجاوزه، ودولة تعتز بسيادتها واستقلال قرارها، ولن تقبل يوماً بهيمنة أي إرادة خارجية أو التضحية بمصالحها لخدمة مصالح غيرها. وأن عصر النفط ما زال في عزه، ولن يتمكن العالم من الانتقال الى مرحلة الطاقة البديلة قبل أن يؤمن لها النفط الاستقرار والأمن في المرحلة الانتقالية. وأن الرياض بدأت بالفعل الانتقال بخطوات رائدة في مجال الطاقة المستدامة، الشمسية والهيدروجينية وحتى النووية.
كما شرعت في التحول عن الاعتماد على البترول كمصدر دخل، وتنويع اقتصادها في مجالات تقدمية كصناعات الفضاء والذكاء الصناعي والروبوت والتقنية الرقمية، وتقليدية كالسياحة والترفيه والخدمات اللوجستية. ومن مصلحة أميركا الاستفادة من كل الفرص الاستثمارية المتاحة والكسب في سباق تشارك فيه كبرى اقتصادات العالم.
آخر الازمات
والأمل أن تكون هذه الأزمة آخر الأزمات التي تنتج من سوء تقدير لمكانة السعودية وإمكاناتها وإصرارها على الدفاع عن سيادتها ومكتسباتها. فليس لأميركا، بقيادتها وريادتها للعالم الحر، مهما تعددت الخيارات والشراكات، خيار. كما ليس للسعودية في خريطة المصالح الاستراتيجية الأميركية الدولية بديل. وثمانون عاماً من الصداقة والتعاون نقلت العلاقة من المتغير المتحول الى الثابت المستقر، اثبتت مرة بعد أخرى الحاجة الى حمايتها من تقلبات السياسات الداخلية والمزايدات الايدلوجية والمصالح الطارئة.