رنا الصيفي
ما تزال الملهاة الانتخابية مستمرّة على ما يبدو... لحسن حظ جمهورها المنبسط على عرض الوطن وطوله للأسف. والأسخف أنّها انتقلت الآن من التطاحن على حشد الأصوات إلى "التزريك" في مجموع أعدادها.
قلّما يهمّ من كان الرابح أو الساقط- أو بالأحرى "الساقط" الرابح من بين بعض المنتَخَبين- ولا المحصّلة النهائية التي كانت محسومة سلفًا، وإن كسرت قاعدتَها مفاجآت موجِبة كما سالبة.
كمواطنة، لم يهلني الشحن الطائفي المذهبي الفئوي المَقيت، ولا التذلّل لزعيم مكرّس، فقد بات ذلك من نسيج الهُوية اللبنانية. ما لفتني نفحة التضامن ما بين المرشّحين على اللوائح المدنيّة مقابل الخصومة العلنية للوائح السلطة، إن كان ما بين أفراد لائحة منافِسة لأخرى، وإن في لوائح التحالفات الواحدة. فهل هي مفارقة مقصودة أم محض مصادفة؟
لم أقدْر، من منطلق اختصاصي، إلّا التوقّف عند العناوين الطنّانة الرنّانة التي علت جبهة اللافتات وملصقات صور المرشّحين والشاشات الإلكترونية المواكِبة للعصر (والصديقة للبيئة كما قيل؟ لكن ماذا عن الطاقة الكهربائية التي تستهلكها؟ وماذا عن تكلفة طباعة كلّ تلك المنشورات؟ ألم يكن من الأجدر بأصحابها أن يوجّهوا هذا الهدر إلى حيث تدعو الحاجة وهي كثيرة وملحّة؟!).
بالعودة إلى الشعارات، رحتُ أتساءل، على مدى الشهر الانتخابي، ما إذا سيكون مطلقوها المكرورون على قدرِها أم أنّ ضرورات التلاعب العاطفي في الإعداد للانتخابات حتّمتها! فليس في سجّل أفعالهم ما يُطمئِنُ النَفْس، ولا في أكاذيبهم المجترّة ما قد يجعل حيلهم علينا تنطلي. اللغة، وأصلها "لوغوس" بالإغريقية، تعني "الخطاب"، "العقل الكليّ"، و"المنطق" من بين دلالات أخرى، وبالتالي فإنّ من يستعمل اللغة، يسخّر هذه الأقانيم مجتمعة في قوله. لو فرضنا أنّ عقلَ مَن صاغ تلك الشعارات عقل مدبّر، فماذا عن عقل متلقّيها؟ في علم اللغة فروع، منها علم الدلالة، وعلم الأسلوبية، وعلم اللغة النفسي، تختصّ تباعًا بدراسة الألفاظ ومدلولاتها، وأسلوب الخطاب، واستيعاب الكلام ومعانيه. إن جئنا إلى تحليل بعض الشعارات إسنادًا إلى العلم، نرى أنّ في شعار "نحنا بدّنا ونحنا فينا" إعلاءً لنفوس قائليه القادرة، المريدة، وانتقادًا للآخر المتقاعس.
قال آخرون فلننطلق "نحو غد أفضل"، وكأنّهم يقولون: سنحمل مستقبلكم على ظهورنا وإن تقوّست (لا أدري إن كانوا مدركين لوزن الأثقال التي نرزح تحتها، فحتى شمشون الجبّار قد يفرّ هاربًا لمجرّد ذكرها). "كنّا ورح نبقى" وعلى الوعد يا كمّون...تصريح مباشر يُراد به القول إنّهم كالشجرة الضاربة جذورها عميقًا ولن تنجح كلّ محاولات اقتلاعها. ومنهم من هم "باقون نحمي ونبني" دلالة على الصمود وتمثيلًا للدرع الحصينة ورفضاً لأسلوب الهدم. وأتت "الشراكة والإرادة" لتشير إلى المثابرة على وضع اليد مع الحليف التوافقي.
هذا في تشريح معاني الألفاظ، أما في التحليل الأسلوبي والنفسي، فهذه الشعارات كافة لا تتعدّى كونها رسائل اتهامية صِداميّة بين الفرقاء، توكيدًا على معاداة واحدهم للآخر، يوهمون فيها جماهيرهم بقدراتهم البطوليّة التي أستغرب كيف أنهم اكتسبوها فجأة على الرغم من احتلالهم مواقعهم منذ الأزل، ويقطعون وعودًا تتنافى وواقع الحال، ويرسّخون وجودهم المستمرّ عبر الزمن، كأنّهم في معركة البقاء للأصلح. وفي المقابل، ظهرت شعارات مفادها "توحّدنا"، "نحو الدولة"، "لوطني"، "شمالنا"، "سهلنا والجبل" "معًا نحو التغيير" وسواها، من مجموعات شبابية بمعظمها، جديدة الوجوه، مدنية المنحى، وطنية المسلك. المفارقة أنّ هذه الكلمات والعبارات، سهلة ممتنعة، بسيطة المبنى عميقة المعنى، غابت عنها الدلالات الشخصيّة وخطاب التحدّي والمواجهة التي سقطت أمام الضمير...الضمير المتّصل "نا"، ضمير الإنسان الواعي المتكلّم جمعًا لا فردانية، وجمعت بين ضمير المتكلّمين "نحن" وضمير المتكلّم "أنا" في حكمة أطاحت الواحد من أجل الكلّ.
واستُمدّت من الوطن وأقطاره وتوجّهت إليه، أي خاطبت العام لا الخاص، الكلّ لا الجزء. لم تتوجّه إلى فئة أو جماعة أو طائفة أو مذهب. ولم تفصّل الوطن على مقاس الانتماء الطائفي والحزبي الضيّق، بل أثبتت ولاءها للوطن على أنه المبتغى والمنتهى. صرخت هلمّوا بنا إلى بناء "الدولة" في ظلّ غيابها، أي إلى بناء الإنسان وصون كرامته وحقوقه، هلمّوا بنا إلى التوحّد من أجل قضيّة واحدة، إلى التكافل والتضامن. لم تقطع وعودًا بل رسمت مسارًا، لم تستعرض عضلاتها وتكرّر مواقفها بل عرضت خططًا وحدّدت هدفًا.
وما تزال الملهاة بين المتقاتلين مستمرّة، لحسن حظ المتّحدين السبعة عشر، الذين آمل أن يتشبّثوا ما أمكن بطوق النجاة على مدى السنوات الأربع المقبلة. فالسباحة مع سمك القرش لا تُحمد عقباها.