لم يكن ينقص العالم إلا إعلان السويد وفنلندا نيّتهما الانضمام لحلف شمال الأطلسي "الناتو" حتى يتسلّل القلق والرعب إلى أذهان وعقول السّاسة والقادة حول العالم وشعوبهم من اندلاع حرب عالمية قاتمة. فمنذ انطلاق الحرب الروسية - الأوكرانية يتّضح يومًا بعد يوم أن المواجهة في الواقع هي بين حلف "الناتو" وعدد من حلفائه من جهة، وبين روسيا وحلفائها من جهة أخرى؛ إلا أن ذلك الانضمام لن يكون بالأمر اليسير، ولن يمرّ مرور الكرام!
ذلك أن فنلندا والسويد لطالما كانتا على الحياد حتى في أعتى الأزمات، ونيّة الانضمام جاءت بسبب تطمينات أميركية بأنها ستوفر لهما الحماية في حال أقدمت روسيا على تحرّك ضدهما. بيد أن هناك مؤشرات يمكن القول إنها ستأخذ فنلندا والسويد لاتجاه ثانٍ، إذ سيصبح "الناتو" رسميًا على الحدود الروسية، خصوصًا أن فنلندا لوحدها تتشارك مع روسيا حدودًا مباشرة يصل طولها إلى 1300 كيلومتر، وهي مسافة كافية لاندلاع حرب طاحنة فيها أو حتى تحويلها إلى نقطة صراع.
لا شكّ في أن انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو لا يعني تخلّيهما عن الحياد فقط، بل سيضيف زخمًا أكبر إلى الحرب الأوكرانية المندلعة، وحينها قد تتحوّل المواجهة رسميًا إلى صدام بين روسيا و"الناتو" قبل أن تصبح حربًا نووية.
ولكن ما قصة حياد الدولتين؟
هاتان الدولتان الاسكندنافيتان القابعتان في شمال أوروبا لم تكونا ذات يوم من أعضاء حلف "الناتو"، وفي أشدّ أيام التوتر إبّان الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، التزمت الدولتان الحياد الكامل، ولم تتدخّلا في أيّ قضايا بين الطرفين حتى انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، حين اتخذت الدولتان خطوات أكبر للعمل مع موسكو وواشنطن وبقيتا على الحياد دائماً من دون أيّ تقرّب.
لكن تحرّكات موسكو في كييف سبّبت الكثير من القلاقل بالنسبة لهما، ودفعتهما بشكل أكبر للتقرّب من أميركا وحلف "الناتو". ففي العام 2014، وبعد ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية، ثم الغزو الروسي الأخير لأوكرانيا، شعرت الدولتان بالخوف والقلق أكثر. ومَن يراقب السويد على وجه الخصوص يرى أن القلق كان منطلقًا حتى قبل اندلاع الحرب الأوكرانية، حيث تصدّر المشهد السياسي في البلاد عبارة "الروس قادمون"؛ وهو مصطلح يعود إلى فترة الإمبراطورية السويدية التي سعت في السابق إلى ضمّ روسيا إليها غير أنّها فشلت أمام القيصر الروسي بطرس الأكبر أو الأول، إذ شكلت تلك المعركة بداية النهاية للإمبراطورية العظمى للسويد، ومنذ ذلك الزمن أضحى هذا المصطلح مرعبًا للسويديين.
ومع انطلاق الأزمة الأوكرانية - الروسية على حدودهم عمّ المصطلح البلاد بالكامل، وبات عنوانًا جذّابًا في الإعلام السويدي بشكل خاص، كما رفع حالة التأهب في الجيش السويدي.
يُذكر أنه في كانون الثاني من العام 2022 تمّ نشر قوات عسكرية في جزيرة غوتلاند المطلّة على بحر البلطيق. ومع ذلك، يرى محلّلون ومراقبون أن تقديم كلّ من السويد وفنلندا طلب انضمامهما لحلف "الناتو" لم يأتِ نتيجة قلقهما بل بسبب التطمينات الكبرى التي وعدت بها واشنطن لكلتيهما بأنّها ستكون قادرة على حماية الدولتين في أيّ لحظة.
ولكن مهلاً! دعونا نتوقّف للحظة هنا: كيف يمكن لواشنطن ضمّ دول على حدود روسيا، وهي سبق لها أن اتفقت معها على عدم التمدّد على حدودها؟!
في الواقع، لا أحد يعلم كيف؟ فعقب انهيار الاتحاد السوفياتي، اتفقت واشنطن وموسكو على أن حلف "الناتو" لن يتوسّع مترًا واحدًا في شرق أوروبا، قبل أن يتغيّر المشهد كثيرًا بعد مرور السنوات. فعلى الخريطة، توسّع الناتو باتجاه الشرق بما يقارب ألف كيلومتر، كما ضمّ العديد من الدول التي كانت سابقًا ضمن حلف وارسو العسكري، الذي أسّسه الاتحاد السوفياتي ردًا على تأسيس حلف "الناتو". أما بالعودة إلى التطمينات الأميركية فباتت تشكّل حجر الأساس لانضمام الدولتين للحلف.
ذلك أنه قبل انطلاق الحرب الأوكرانية عكفت واشنطن على الترويج بكثافة أن روسيا قادمة لاجتياح جميع الدول التي تقع ضمن محيطها، وأن عليهم لضمان أمنهم الانضمام لحلف "الناتو". وبهدف تعزيز تلك القناعة لدى الدولتين، اتجهت وزيرة الخارجية السويدية آن ليندي إلى واشنطن في الأول من شهر أيار الحالي لتلتقي هناك نظيرها الأميركي أنتوني بلينكن، وبعد اللقاء خرجت الوزيرة السويدية لتقول إنّ بلادها تلقّت ضمانات من واشنطن بأنّها ستحصل على الدعم خلال تقديمها طلب الانضمام للحلف. وعلى إثرها، خرج البيت الأبيض ليقول إن الولايات المتحدة واثقة من قدرتها على حماية السويد وفنلندا من أيّ مخاوف أمنية.
وبناء على ذلك، أقدمت الدولتان على تقديم طلب الانضمام، لكن ذلك القرار لم يقف عندهم أو عند الولايات المتحدة، فهناك دولة أخرى تقف حجر عثرة بوجه انضمامهما للحلف؛ والحديث يقودنا هنا إلى تركيا التي تعتبر حجر الأساس في الحلف وتملك ثاني أقوى جيش بعد أميركا.
إذًا لماذا ترفض تركيا انضمام السويد وفنلندا؟
في 16 أيار الحالي، أعلنت السويد رسميًا قرارها بتقديم طلب الانضمام للحلف، لكن تركيا أعلنت، وقبل أسبوع من ذلك القرار أنها لن تنظر في طلبيْ السويد وفنلندا بإيجابية بسبب استضافتهما لأعضاء جماعات تصنفها أنقرة إرهابية، فخلق رفض أنقرة حالاً من الأخذ والرد بين الأطراف المعنية، إذ أعلنت السويد إثر ذلك، وبالاشتراك مع فنلندا، أنّها ستشكّل وفدًا من كبار الممثلين للدولتين للاتجاه إلى تركيا بهدف إطلاق محادثات لمعرفة أسباب اعتراض الأخيرة.
من جانبه، ردّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سريعًا على تلك الأخبار بقوله: "إن على الوفدين ألا يتكلّفا عناء القدوم لأنقرة لأن تركيا لن توافق أبدًا على انضمامهما لحلف شمال الأطلسي"، ووصف السويد تحديدًا بأنها "مُفرّخة" للمنظمات الإرهابية، فضلاً عن ضمّها إرهابيين في برلمانها، ناهيك بورود تقارير من أنقرة تفيد بأن السويد وفنلندا تؤويان أشخاصًا تقول إنهم مرتبطون بجماعات تعتبرها إرهابية على غرار حزب العمال الكردستانيPKK، بالإضافة إلى أتباع فتح الله غولن الذي تتهمه أنقرة بمحاولة تدبير محاولة الانقلاب في تموز من العام 2016.
بيد أنه في حقيقة الأمر، لدى أنقرة مخاوف أكبر تحدّث عنها أردوغان بنفسه، وهي تجربة وجود اليونان في الحلف ذاته. ففي العام 1974، خرجت اليونان من الحلف العسكري على إثر عملية السلام التي قامت بها تركيا في جزيرة قبرص، بيد أن اليونان حاولت بعد ذلك الانضمام مجددًا قبل أن تصطدم مرارًا بالـ"فيتو التركي"، وتتم الموافقة لاحقاً على العودة إثر الانقلاب الذي شهدته تركيا في العام 1980.
وفيما يعوّل اليوم أعضاء الحلف والولايات المتحدة على إقناع تركيا بالموافقة على انضمام السويد وفنلندا، خصوصًا أن الحلف يحتاج وبقوة للتواجد في بحر البلطيق، قال ديبلوماسيون أميركيون لوكالة رويترز إن واشنطن قد تمارس ضغوطًا كبرى على الرئيس التركي بغية إقناعه بالموافقة على انضمام الدولتين.
من جهته، قال الأمين العام لحلف "الناتو" ينس ستولنبرغ إن تركيا حليف مهم، وينبغي إزالة المخاوف الأمنية كافة التي تعتبرها. ولكن هل يمكن تجاوز تركيا للموافقة على انضمام السويد وفنلندا؟ بالطبع لا، ويمكن القول إن تركيا اليوم تتحكم بمصير انضمام الدولتين، ذلك أنه بحسب بنود القواعد المؤسسة لحلف "الناتو"، فإن جميع القرارات تؤخذ داخل الحلف بالإجماع فقط، وإن أيّ عضو من الاعضاء الثلاثين يملك حق النقض (الفيتو) لرفض أيّ قرار، ممّا يعني أن رفض تركيا يشكل "بيضة القبّان" في قبول الانضمام من عدمه.
من جانب آخر، ترى بعض الصحف الغربية أن الدولتين قد تقدّمان لأنقرة ما تريده مقابل موافقتها على الانضمام للحلف، لكن ذلك الحلّ يبقى فرضيًا في ظل تمسّك أنقرة بموقفها.
ولكن ماذا لو انضمت السويد وفنلندا بالفعل للناتو؟ ماذا سيتغير على الخريطة؟ وماذا سيكون رد روسيا؟
في الواقع، في حال حصول ذلك سيكون حلف "الناتو" قد بلغ فعليًا، وبشكل رسمي، حدود روسيا من خلال دول عُرفت منذ أكثر من ثلاثة عقود بالحياد الكامل، ممّا يعني أنها نقطة قابلة للاشتعال بسهولة. فالسويد على وجه الخصوص، وقبل اندلاع الحرب الأوكرانية، بدأت مشروعًا لتسليح جيشها وإعادة تمركزه على الحدود مع روسيا، على الرغم من كون الأخيرة لم تقترب من حدودها في ذلك الوقت.
من جهتها، تخشى فنلندا أن تكون ضحية غزو روسي طائش على السويد يمتد إليها في لحظة ما، ممّا يجعلها في مرمى النيران هي الأخرى من دون أي سند كما حصل في أوكرانيا، إذ تشكل ورقة انضمامها للناتو ضغطًا على واشنطن لدعم تلك الدول بشكل فعلي في حال أقدمت روسيا على أيّ غزو.
بيد أن روسيا كانت صريحة في النوايا، إذ قالت إنها تبحث في عملية الرد، ولم توضح إن كانت عسكرية أم سياسية، لكنها على الأغلب لن تتردد في غزو إحدى الدولتين إذا ما استشعرت بالخطر، وحينها ستكون بمواجهة مباشرة مع حلف "الناتو" الذي يعتبر أيّ هجوم على دولة من الأعضاء هجوم على الحلف بالكامل ويستوجب الرد عليه مع تلك الدولة.
باختصار، إن وجود السويد وفنلندا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) سيشكل للعالم قنبلة نووية موقوتة قد تنفجر في أي لحظة بين روسيا والناتو.
وهذه المرة، وفي حال أقدم بوتين على غزو جديد، فستكون الحرب أكثر عنفًا وشراسة واتساعًا، وقد تؤدي في النهاية إلى حرب نووية عالمية لا محالة!