في الوقت الذي تواصل فيه الحرب على أوكرانيا نشاطها باحتمالات مفتوحة على جميع المخاطر، مفتتحة حرباً باردة لا نعرف كيف ستنتهي في ظلّ شبح السلاح النووي، متسبّبة باضطراب إمدادات المواد الغذائية الأولية ونقص القمح والزيوت وغيرها واشتعال أسعارها، ما يهدّد البلدان الفقيرة بالمجاعة، ونتيجة تدهور الإيكوسفير تتوالى موجات الحرّ والحرائق المتنقلة من منطقة إلى أخرى في أوروبا وفي غيرها من البلدان مهدّدة بمخاطر كارثية متصاعدة بما تعنيه من أضرار بيئية وفواجع ديموغرافية كتهجير الآلاف؛ وستتفاقم عند العودة إلى الفحم الحجري على خلفية الصراع على مصادر الطاقة الذي احتدم على شكل سباق محموم لتأمين موارد الغاز والبترول وأثر ذلك على اقتصاديات الدول، خصوصاً بعدما فعلت جائحة كوفيد فعلها بالاقتصاد العالمي، ولحقها وباء جدري القرود والفيروس الجديد ماربورغ، مع وعود بفيروسات وأمراض أخرى مجهولة قادمة.
في هذا الوقت بالذات جاءتنا صور تلسكوب جيمس ويب بفضل جهود مجموعات كبيرة من العلماء وكلفة مليارات الدولارات، بألوانها المدهشة، التي سيساعد تحليلها على سرد وتوثيق سيرة تكوّن هذا الكون.
عرضت الصور أمام الملايين من البشر من سكان الكوكب المشوّه والمهدّد بآلاف المخاطر، والذي لا يبدو جميلاً إلا عن بعد بواسطة عدسات التلسكوبات كجزء من عوالم الكون الأخاذة.
لكن لا يبدو أن تلك الصور، بما تعنيه علمياً، ستغيّر في شيء من سلوك سكان الكوكب المهدد الذي لا يكاد يكون بحجم ذرة رمل في هذا الكون اللامتناهي.
لن تغيّر معرفتنا هذه شيئاً من سلوكنا كبشر غير مسؤولين وغارقين في الأحقاد والكراهيات والعنف. ولن نصبح أكثر تواضعاً أو نعمل على إنقاذ الأرض مما يتهدّدها. ولن تغيّر شيئاً في سلوك أي من قادة هذا العالم الباحثين عن المزيد من السلطة والتسلط في معالجاتهم للقضايا المصيرية المطروحة على ضمير البشرية.
ستظل صور وكالة ناسا كمثل لوحات فنية انطباعية خلابة يستأنس بها سكان الكرة. صور حقيقية لما سبق أن أعطتنا لمحة عنه مخيّلات مبدعي العالم في روايات الخيال العلمي والأعمال الفنية والأفلام السينمائية التي جسّدت ملامح بسيطة لما عرض على الشاشات. كما أكدت صحة نظريات أينشتاين وسلسة علماء الفلك والرياضيات والفيزياء وجسّدت كل ما سبق أن قدّروا وجوده بواسطة عقولهم المنفتحة وأدواتهم التقنية ومعادلاتهم الرياضية وأبحاثهم ومؤلفاتهم، وخاضوا حروباً لتثبيتها وفرضها كحقائق، منذ مطلع الثورة العلمية في الغرب التي ارتكزت على علم الفلك، كما فعلت ثورة كوبرنيك الذي جعل الشمس في المركز.
النقلة المعرفية حينها تطلبت قدراً كبيراً من الصدام مع الدوائر الدينية والفكرية في الغرب، واستطاع فيها العلم أن يفرض نفسه من خلال مجموعة صراعات فكرية اشتبك فيها أفراد مثل غاليلو في معارك مع السلطات الكنسية من أجل ضمان قضايا تتعلق بمعرفتهم العلمية.
أما في الشرق الحالي، البعيد عن النشاط العلمي، فلم تفعل صور التلسكوب جيمس ويب أكثر من استعادة الجدل بين فكرتي الإيمان والإلحاد. كما نجد من يدحض الأفكار الدينية والإيمان الديني لأن ناسا تقرّبنا من لحظة الانفجار الكبير؛ وكأن لحظة الانفجار الكبير تتعارض مع فكرة الخالق أو المسبب لهذا الانفجار الكبير الذي انطلق معه تشكّل الكون، مسبّب مهما كانت تسميته، سواء الله أو الطبيعة. ففي تصورهم أن العلم يتعارض مع الإيمان، بالرغم من أن العلماء لا يتوافقون على ذلك.
وبدأ البعض بتكذيب الصور والتشكيك في صحتها، ما حدا بصديق فايسبوكي إلى التعليق: "والله شي محيّر، ما عم إفهم شو بدها مؤسسة الإسلام السياسي وماكيناتها الدعائية؟ عم يشكّكوا بصور وكالة ناسا وهوّي المفترض يكونوا سعداء إنّ التطوّر العلمي سمح برؤية المجرات والكواكب البعيدة يللي بتشبه المصابيح بأضواء مختلفة ويللي انحكى عنها بالقرآن "وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ". مش منطقي كل هذا العداء بين الإسلام السياسي وبين العلم، وكأنهم يريدون المسلمين مجموعة مسكونة بالرُهاب والخوف من أي حدث أو اكتشاف علمي وحصر تفكيرهم في قال الله وقال الرسول وكيف تتوضّأ وكيف تدخل البيت وتخرج منه وكيف تقرأ التعويذات لطرد الجن والشياطين وكل الخزعبلات التي تُقَزّم دور العقل وتعمل على إلغائه".
وقد تبدو هذه المواقف غير ذات أهمّية لأنها تعبّر عن فئة معيّنة في المجتمع. لكن في العمق يشكل هذا الموقف استمرارية للمنهج الذي وضع العوائق التي وقفت حائلاً أمام تقدم العلم في هذه المنطقة بعد ان كان قد وصل الى مستويات تؤهّله للقيام بتلك الثورة.
وهذا كان في صلب اهتمام العالم عبد الحميد صبرة، المؤرخ وفيلسوف العلم والعربي الوحيد الذي نال وسام جورج سارتون من جمعية تاريخ العلوم. فبالنسبة له عند محاولة فلاسفة العلم الغربيين ومؤرّخيه تفسير النجاح الفريد للعلم الحديث في الغرب من زاوية البحث في قصور الحضارات الأخرى، يشيرون الى أن الأمر لا يرجع إلى نقص في التقنية العلمية في تلك الحضارات بل إلى قصور في المجال الثقافي ككل. فقد أقامت تلك الثقافات قيوداً على المشاركة المعرفية وعلى الخطاب العام.
الصين هي التي اخترعت الطباعة المتحركة، وكذلك الورق قبل الغرب بـ400 عام، ولكن لا الصين التي ظهر فيها هذا الاختراع لأول مرة ولا الحضارة العربية الإسلامية التي أحرزت تقدماً نحو تقنية الطباعة الجديدة، استطاعتا إحراز الثورة الفكرية والاجتماعية التي حدثت في الغرب. والحقيقة أن الحضارة العربية الإسلامية قد أقامت حاجزاً حال دون استخدام الطباعة حتى أوائل القرن التاسع عشر.
إن تقدم العلم من وجهة النظر هذه ليس مجرد مسألة تقنية لحلول رياضية دعمتها الملاحظة والتجربة أو الصيغ النظرية الجديدة، وإنما هي نتاج ظهور نهج يسمح للمفكرين بتطبيق رموز وأفكار جديدة تحطم حدود الحكمة والأفكار التقليدية. ما يسمح بظهور مكان محايد جديد يتحرر فيه الناس من رغباتهم الجماعية والفردية ليتبادلوا الأفكار الاجتماعية واللاهوتية والأخلاقية والقانونية والعلمية الجديدة علناً. بهذا يمكن للخطاب العلمي أن يؤدّي دوره.
ما حصل في العالم الاسلامي هو "تطبيع" للعلم بمعنى توطين العلوم القديمة المسماة علوم الأوائل، ومن ثم إلحاقها بالمنظومة الفلسفية والثقافية المحلية لا على أساس دمجها الكامل وإنما لتتخذ الطابع النوعي من الاستقلال والشرعية دون أن تستقل عن المحاذير الدينية والخلقية للثقافة المحيطة. لم يحصل الدمج الكامل في الحضارة الإسلامية، فالمعركة الحقيقية في العلم انما كانت (ولا تزال) أن ينال استقلاله لكن بعد أن يصبح إسلامياً، أي خاضعاً بالكامل للسلطة والثقافة الدينيتين.
كان بعض علماء العرب قد توصّلوا إلى نماذج فلكية قريبة من تلك التي لدى كوبرنيكوس أو متماثلة تماماً مع اختلافات ضئيلة في بعض مقاييسها، لكن لم يستطع ابن شاطر ولا من خلفه، أن يقوموا بالوثبة الكبرى نحو نظام مركزية الشمس الذي يمكن أن نطلق عليه الباب الميتافيزيقي للثورة العلمية الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وبدلاً من ذلك فقد جمد العالم العربي وبدأ بالتدهور.
لماذا لم يتابع العرب السير إلى "الميل الأخير" حتى الثورة العلمية الحديثة التي لم تكن تتطلب أكثر من نماذج رياضية؟
لأن الانتقال الميتافيزيقي كان بلا شك سيحدث انشقاقاً فكرياً مع النظرة الإسلامية التقليدية إلى الكون، على غرار التحوّل الكوبرنيكي الذي عُدَّ ثورة معادية للكنيسة وتحمّل علماءها ثمن جسارتهم من تكفير وإعدام أو تهميش؛ الأمر الذي تم تفاديه في العالم العربي الإسلامي. فتوقف العرب عند حافة واحدة من أكبر الثورات الفكرية في التاريخ، ثم انحدروا بعد أن أخفقوا في الوثبة الكبرى. ومن الملاحظ أن الأقطار الإسلامية تتعلق إلى اليوم بالتقاويم القائمة على الدورات القمرية.
حتى اليوم نعاني من القيم الثقافية الكامنة التي لا تشجع، بل تؤخر البحث العلمي.
ربما تسمح بوادر استنهاض عالمنا في إعادة النظر في السبل التي أدّت، وتؤدّي دوماً، إلى تقدّم العلم حتى نخرج من سباتنا الثقافي والعلمي.
فاللغز الذي لم يحله العرب بعد هو أن الطريق إلى العلم الحديث والمعرفة والتقدم والنموّ، يظل الخطاب الحر المفتوح من دون قيد أو شرط.