برزت على الساحة اللبنانية خلال الأسبوع المنصرم نقاشات عدة تحولت إلى حفلة من "الجنون الطائفي" وتبادل التهم والتخوين، لتعيد إلى الواجهة الخلل البنيوي للنظام اللبناني ولا سيما قدرة الطغمة الحاكمة على "تسليح" أي من المواضيع السياسية والقانونية واستعمالها في تشتيت النظر عن مواضيع أساسية، منها استعادة الدولة من براثن إجرامهم وفسادهم.
طرح التيار العوني تقسيم بلدية بيروت لشطرين تحت ذريعة "الإنماء والإصلاح"، أتى الطرح – ولو كان المطلب من حيث المبدأ محقاً – كنوع من المزايدة والمغالاة في العنصرية والطائفية من قبل "تيار" برهن من خلال ممارسته في الحكم والتحالفات عن أخلاقيات حوّلته إلى جزء من مشروع تحالف الأقليات بعيداً عن الإيمان بالمواطنة، وصار جزءاً من ورقة تين لمشروع "الحرس الثوري الإيراني"، كذلك تبرير إجرام نظام بشار الأسد والبراميل المتفجرة.
واللافت انضمام حزب "القوات اللبنانية" للمطالبة بتقسيم العاصمة، هذا الانضمام يمكن وضعه في خانة التنافس بين الحزبين، والخوف من احتكار التيار العوني "لحقوق المسيحيين"، ليضفي بعداً مذهبياً على الجدل القائم، الذي يستند إلى فكرة خاطة تقول إن الشطر الشرقي (المسيحي) لبيروت يدفع الضرائب بانتظام فيما المناطق "غير المسيحية" تستفيد من تلك الأموال بشكل غير محق وغير عادل.
بالنسبة لبلدية بيروت "الممتازة" من دون امتيازات بشكلها الحالي ومنذ عقود، هي ليست سوى رافد للنظام السياسي، القائم على المحاصصة والفساد، ويتمثل فيها معاً كل من الأحزاب المطالبة والرافضة للتقسيم.
مطلب تقسيم البلدية أو حتى طرح الفيديرالية واللامركزية ليس بمشكلة بنيوية، بل هو طرح طبيعي ونظام تشغيلي عصري يعتمد عليه في العديد من البلدان الناجحة، ولكن المطالبة بتطبيقه بوجود سلاح "حزب الله" والنظام السياسي الفاسد، تشبه قيام شخص يعاني من أمراض مستعصية بتسلق قمّة إفرست بدون أي تدريب أو معدات مناسبة، وهو يبدو كعمل غبيّ إن لم يكن انتحارياً.
تقسيم بلدية بيروت في ظل الإطار الحالي للسلطة من دون مواجهة سلاح إيران الحامي للمنظومة لا يختلف عن العقلية التي برّرت تحالف مار مخايل، الذي افترض أن "حزب الله" هو مشكلة إسلامية يستطيع المواطن المسيحي تفاديها، وهم تم تبديده في الرابع من آب 2020 عندما دمّر انفجار مرفأ بيروت الشطر الشرقي للعاصمة التي فشلت مدفعية جيش الطاغية حافظ الأسد في تدميرها سنة 1978.
تزامن الجدل حول تقسيم بيروت مع توقيف راعي أبرشية حيفا والأراضي المقدسة والنائب البطريركي على القدس والأراضي الفلسطينية والمملكة الهاشمية بالطائفة المارونية المطران موسى الحاج وهو عائد من الأراضي المحتلة، وبحوزته مبلغ من المال والمساعدات العينية المرسلة من بعض اللبنانيين – منهم من خدم مع جيش لبنان الجنوبي – إلى ذويهم، والذي يُعتبر بحسب القانون اللبناني عملاً غير قانوني يُصنّف كجرم تعامل مع العدوّ.
اللافت في حادثة المطران موسى هو الوتيرة السريعة التي حوّلت تلك الواقعة الى حفلة تخوين قام بها أتباع جمهور "حزب الله"، الذي وافق على وثيقة "التفاهم" بين حسن نصرالله وميشال عون الذي طالب "بالعودة السريعة [للبنانيين الموجودين في إسرائيل] إلى وطنهم استرشاداً بنداء سماحة السيد حسن نصرالله بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان واستلهاماً بكلمة العماد عون في أول جلسة لمجلس النواب.
الوقاحة الحقيقية هي أن نفس المحور الذي يضم كلاً من "حزب الله" والتيار العوني هما من سهّل في السابق إطلاق المسؤول في جيش لحد وسجّان معتقل الخيام عامر الفاخوري، ليدّعيا لاحقاً عدم معرفتهما بالموضوع، نكران يشبه تماماً ما فعله نصرالله علناً في موضوع "نترات الأمونيوم" التي انفجرت بالمرفأ، ليقوم بعرقلة مسار العدالة وافتعال أحداث الطيّونة.
أما المدافعون عن عمل المطران موسى كما بعض الذين غالوا في المطالبة بالتقسيم، فتناسوا أن ما قام به المطران هو ضد القوانين اللبنانية كركن مادّي وإن كانت النيّة الجرمية منتفية، لأن المطران ينقل الأموال لهدف خيري بحت.
كذلك يغيب عنهم أن المطالبة بتطبيق القوانين يجب أن تعمّ على كل القضايا، فالمطالبة برفع يد القضاء عن ملفّ المطران هو مثل الموافقة على "الإجحاف" القضائي في ملفّ انفجار المرفأ، ما يفرض التشديد على إبقاء القضاء المدني مستقلاً ومسؤولاً عن كل القضايا بعيداً من التدخلات.
الفارق الأساسي بين مدّعي المقاومة والمطالبين الحقيقيين بالسيادة والإصلاح، هو تطبيق القانون، وعدم محاولة تبرير الخطأ ولو كان مبرّراً، و الأهم عدم الاستمرار في السماح لأيّ مجموعة، خاصة الذين يدّعون تمثيل السموات من كل الطوائف، بالفرار من المحاسبة، عبر الاحتماء بقوانين خاصة استثنائية تعطيهم حصانة تكرّس عدم المساواة بين المواطنين وتعطي البعض الحجة للاستمرار في خرق القانون.
بقعة ضوء
في خضمّ حفلات الجنون المستمرّة وغياب لغة العقل، خرج علينا لاعب كرة السلة وقائد منتخب لبنان وائل عرقجي ليذكّر العالم بأن لبنان، البلد المكسور، من حقه أن ينهض من كبوته، وأن يعيش الأمل بمستقبل أفضل مليء بالفرح والمحبّة، مذكراً الساسة اللبنانيين خاصّة هؤلاء الذين سارعوا لتهنئة منتخب لبنان بالنصر وعلى رأسهم رئيس الوزراء نجيب ميقاتي "بأن يصمت ويترك الشعب اللبناني ينظّف لبنان من وسخهم".
العرقجي – كما رفاقه – ليس بنجم رياضي فحسب بل هو وجه لبنان الذي نصبو إليه، فهذا الشاب في مباراته مع منتخب الأردن لم يشمت بهزيمة الخصم، ولم يحتفل بفوزه قبل أن يواسي نجم المنتخب الخصم في صورة تعكس أقصى درجات الإنسانية والسموّ الأخلاقي.
ربما من الأفضل للمطالبين بتقسيم العاصمة بيروت، والمشغولين بالتضامن مع البطركية المارونية بوجه السلاح الإيراني، والإصرار على جمع التبرّعات، والوقوف في طوابير الخبز والذلّ، الانضمام الى أمثال وائل عرقجي والاقتصاص من السبب الحقيقي لمأساتهم اليومية، السلاح والمنظومة الفاسدة، والاستعاضة عنهما ببناء وطن يحمي جميع أبنائه بدلاً من الاستمرار في الرهان على لعنة المذهبية.