النهار

الوضوح الذي بتنا نخاف العودة إليه!
قطع الطّريق بالإطارات المشتعلة أمام مصرف لبنان (حسن عسل).
A+   A-
كلّ من له أذنان وعينان يستطيع أن يَعيَ حجم المعاناة اليوميّة التي نكابدها. مشوار يوميّ حافل بالأرقام، سعر الدولار، جدول المحروقات، أعداد علب الدواء المتبقيّة لدينا قبل الانقطاع، عدّاد المولّد الكهربائيّ، سعر ربطة الخبز، السرفيس... وكلّ ما استطاع عقلنا أن يتخيّله ويُحصيه خلال كتابة هذا النص.

هو "لبناننا ولبنانكم" الذي وضعنا بين خيارين لا ثالث لهما، إمّا التسليم لكل ما يحصل من "قتل متعمّد" لِمَا تبقّى من أحلام ومستقبل، بكلّ تعب ورضا في آنٍ معاً، وإمّا الانزلاق لما يُحاك لنا من مشاريع متكرّرة على الروزنامات. سببان كافيان للاستلقاء على أريكة دافئة خلف شاشة الهاتف ومراقبة ذلك الموت البطيء، الذي يزحف إلينا بحِرفيّة من أرادوه لنا.

وإذا كانت الحكمة تدفعنا إلى الخوف من المجهول وممّا يُخطّط لنا، من تفلّت في الشارع وأحداث أمنيّة واستعارٍ للطائفيّة، بات من الحكمة أيضاً أن نسأل عن ذلك الغضب الذي حركّنا ليلة 17 تشرين! كيف تلاشى؟ ومَن أسكته؟ ومَن أحكم قبضته عليه؟ أو الأصحّ ما الذي تغيّر؟

اليوم، عاد لي شيء من هذا الغضب، لكنّه غضب آخر؛ غضب من معرفتنا أن الإحباط لا يزول إلا بالحركة، ولكنّنا مكبّلون بالواقع، وبضعف الإيمان في التغيير؛ غضب من السلسلة البشريّة التي أقيمت من شمال لبنان إلى جنوبه يوماً وما استطاعت وصل شيء؛ غضب من مسيرة أمهات الشياح وعين الرمانة التي رفضت عودة الحرب الأهليّة لكنّها لم تقطع الطريق عليها؛ غضب من الحناجر التي هتفت يوماً للثورة، وخَنَقَها صوت الزعيم؛ غضب من نواب الثورة المنقسمين المعتصمين في داخل البرلمان وعجزهم؛ غضب محفوف بمشاعر وانفعالات وأفكار غامضة وثقيلة، أبقت سؤالَ مَن يتحمّل مسؤوليّةَ ما وصلنا إليه، نحن أم المسؤولون بلا إجابة مقنعة!

ليلة توقيف وليم نون شقيق شهيد انفجار مرفأ بيروت، جو نون، غرّد النائب مارك ضو، قائلاً: "ناطرين شرارة حتى يتفجّر الشارع. قد يكون الصاعق وليم نون. إلى الثوار عودوا إلى الشارع تعودوا إلى الوضوح"، وهي الجملة التي دعا من خلالها الصحافي سمير قصير إلى عدم اعتبار الإحباط قدراً. وكم يُشبه أمس اليوم، فما زال الحلم "بسيطاً بساطة الإيمان بالغد" في "بلاد تنهل من اختلافاتها لتحوّلها مصدر قوّة، متحرّرة من قيود الأنانية الطائفية والعائلية، دولة ملك المواطنين جميعاً محصّنة بقضاء مستقلّ"، على أن لا يصبح الوضوح مخيفاً ولا العودة إلى الشارع تحصيلاً حاصلاً.

اقرأ في النهار Premium