يبدو أن كثيراً من المثقفين لم يدركوا المعنى الحقيقي للدعاء الصيني "عسى أن تعيش أوقاتاً مثيرة"! وقد يدعو بعضهم لبعض به بحُسن ظن. إلا أن حقيقة الأمر أنها لعنة صينية بأن تزدحم أيام المرء بتبدل الأحوال حتى يعجز عن استيعابها والتعامل معها!
زحام الأحداث "الشيّقة"
واليوم، يعيش العالم، ونحن معه، هذه اللعنة. نغفو على مصيبة ونصحو على أخرى. التطورات الكبرى تتلاحق يوماً بيوم، وساعة بساعة. فما كدنا "نفوق" من أوبئة إيبولا وحمى الضنك في العقد الأول، حتى عصفت بنا أعاصير عائلة "سارس"، من أنفلونزا الطيور والخنازير حتى كوفيد 19 ومتحوراته، ولا تزال.
ولم نتجاوز الصراعات الإقليمية حتى دخلنا في دوامة صراع كوني، بين شرق وغرب، تكاد نيرانه تدخلنا سرداب المجاعة والكساد.
وما صحّت رؤوسنا بعد من تحذيرات وتنبؤات البيئيين والمناخيين إلا وصدّق نبوءاتهم صيف ملتهب أشعل شمال الكرة الأرضية وحول غاباتها أفراناً.
مصائب زمان!
لا يزال بعضنا يتذكر زمناً كانت المصائب فيه تأتي فرادى، بينها وبعضها أعوام تكفي لفهمها وتدارسها واستشراف الآتي منها. "القضية الفلسطينية" مثلا بدأت عام 1919 بـ "وعد بلفور"، ثم نشطت "الهجرة اليهودية" في العشرينيات، و"مؤتمر لندن" في الثلاثينيات، و"النكبة" في الأربعينيات، و"العدوان الثلاثي" في الخمسينيات، و"النكسة" في الستينيات، و"حرب رمضان" في السبعينيات، و"مبادرة السلام السعودية" في الثمانينيات، و"غزو الكويت" و"مؤتمر مدريد" و"اتفاقيات أوسلو"، وإعلان "دولة فلسطين"، في التسعينيات.
وعلى هذا، فقِس "ريتم" الصراعات العالمية، من الحرب العظمى الأولى، في مطلع القرن العشرين، إلى الثانية، في منتصفه، فالحرب الباردة التي استمرت خمسة وأربعين عاماً، في نهايته.
ألفية الحرب والكساد
قارن تلك الوتيرة بتسارع خطى الأحداث في الألفية الثانية. فمنذ أحداث أيلول 2001، وجد العالم نفسه على صفيح ساخن. فبنفس معدل التقدم العلمي السريع، توالت التطورات الاقتصادية والعسكرية والسياسية كالسيل الهادر، والموج المتلاطم: الغزو الأميركي لأفغانستان 2001، وغزو العراق 2003، وحرب روسيا الثانية على الشيشان 1999-2009، فغزوها جورجيا 2008، وأوكرانيا 2014، 2022.
ولا ننسى مسلسل "الربيع العربي" الأوبامي الذي انطلق عام 2011، وانتهى بتقسيم وتدمير سوريا وليبيا واليمن، فيما تبقى من العقد الثاني.
واقتصادياً، شهد العالم أحداثاً كبرى: أزمة الرهن العقاري (2007)، العقوبات الغربية الاقتصادية المتعددة على إيران وروسيا والصين. خروج بريطانيا بطلاق مرير من الاتحاد الأوروبي، تأرجح أميركا تقارباً وخصومة وخلافات تجارية مع أصدقائها وأعدائها، بين إدارة وأخرى. وها نحن اليوم على شفا كساد عظيم.
موت القطب الواحد
ولكي لا نوغل في التشاؤم، فما كل الأحداث سيئة، ولا كل التطورات سلبية. وحتى القطبية المتشكلة بين شرق صاعد وغرب متوجس ليست كلها شراً. فهيمنة القطب الأوحد، متمثلاً في المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة وضعت معظم العالم تحت هيمنة لم تزدها القوة تواضعاً، والسلطة عدلاً، والغنى جوداً وكرماً. بل أطلقت وحدانية القرار والمرجعية غرور العظمة، وجشع ووحشية المستبد.
وبالنسبة لنا، فقد أفقدنا غياب الخيار القدرة على الاختيار، وحرمتنا صفاقة المتحكم مساحة التفاوض، وأضعف ميل الميزان علينا موهبة التوازن فينا.
مولد الأقطاب
العالم بحاجة إلى الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، في تحالف بريكس، والسعودية وتركيا وباكستان، في التحالف الإسلامي، ومصر والأردن ودول الخليج، في التحالف الشرق أوسطي.
والعالم النامي بحاجة إلى منظمات بديلة لمجلس الأمن بقيادته الخماسية، وللمنظمات الأممية بقيادتها الأميركية والأوروبية، ومجموعة الدول الصناعية السبع والناتو والاتحاد الأوروبي ومنظمات الكومنولث البريطاني والروسي، وشنغهاي الصينية والفرانكفونية الفرنسية.
كما نحن بحاجة إلى تفعيل منظمات عدم الانحياز ودول أميركا اللاتينية والتعاون الإسلامي والتعاون الأفريقي وآسيان والجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي للحفاظ على مصالحنا، ولمواجهة سيطرة القوى المتحكمة وأحلافها.
عودة التوازنات
لماذا اليوم؟ لأننا، أكثر من أي وقت مضى، ندرك استحالة إصلاح المنظمات الدولية وإخراجها من تحت عباءة القوى العظمى. ولأننا دفعنا أغلى الأثمان، كدول نامية، من استغلال القوى الكبرى للموارد الطبيعية وثروات الأرض، حتى تلك التي نملكها.
ولأننا اليوم أقوى، خاصة مع تفرق المستحكمين بين شرق وغرب، وعودة الخيارات وبالتالي لعبة التوازنات التي يمكن لنا بالحكمة والرشد أن نعظم فيها المكاسب ونقلل الهدر والخسائر.
ولأننا في العالم الرقمي الجديد نستطيع بالتركيز على التعليم والبحث العلمي، وبالتحول نحو الاقتصاد المعلوماتي واللوجستي والتقني، أن نطوي قروناً من التخلف عن ركب المدنية الحديثة، ونتجاوز مرحلة الثورة الصناعية الطويلة والمكلفة إلى الثورة السيبرانية السريعة الريتم، المتاحة الوصول، الميسورة التكلفة.
أنموذج الخليج
ولسنا بحاجة لاستلهام تجارب سباقة، كتجربة تايوان أو سنغافورة أو ماليزيا، فالتجربة الخليجية حاضرة، رائدة، قريبة. فخلال عقود، لا قرون، قفزت دول كالسعودية والإمارات، أميالاً واسعة على الطرق السريعة لاقتصاديات المستقبل، كالطاقة المتجددة، وعلوم الفضاء، والزراعة المائية، وتحلية البحر، واستمطار السحب، والخدمات اللوجستية، والسياحة البيئية، والصحية والتسويقية.
كما تواصل الدولتان بناء مدن ذكية، ومناطق حرة صناعية وترفيهية، تعليمية وعلاجية. وتستقطب استثمارات وطنية ودولية بتريليونات الدولارات تشمل نقل التقنية وتوطين الصناعة وإشاعة المعرفة. وتقيم وتشارك في شبكات نقل وخدمات وتجارة عابرة للقارات والتحالفات والمكونات الجغرافية والبشرية والسياسية.
زمن الحياد
والحياد الإيجابي المصلحي الذي نجحت دول مجلس التعاون الخليجي في تحقيقه فرض نفسه على عالم اعتاد في الألفية الماضية على نظام المحاور. فقد انتهى زمن التحالف وبدأ زمن الشراكة. وتجاوز الزمن اتفاقية النفط مقابل الأمن، إلى المصلحة مقابل المصلحة. وخرج الخليجي من معسكر الأحلاف المقيدة، إلى رحاب الشراكات المتعددة، ومن المسار الوحيد إلى الاتجاهات الأربعة.
ولأن الحياد إيجابي، بمعنى أنه بلا تحيز أو ممالأة، تحكمه قوانين المنافسة الشفافة العادلة. ولأنه بعيد عن الأدلجة والكهنوتية، وأقرب للبراغماتية السياسية والقوانين التجارية، فقد سهل على العالم تفهمه وتقبله والتعامل بموجبه.
وهكذا، ولهذا نشاهد قادة العالم، السياسي منهم والاقتصادي، وحتى العسكري والأمني، يتسابقون على عواصم الخليج، ويتبادلون المنفعة معها، ويحترمون سيادتها، ويتعاملون وفق شروطها وأنظمتها.
خيارات العرب
أمام العرب والعالم النامي، اليوم، أنموذج ناجح للقفز على الحواجز والمعوقات، واللحاق بقطار المستقبل السريع، وبناء جسور التعاون مع الكبير والصغير، وتحقيق النماء والرفاه للشعوب دون تنازل أو انحناء. فهل ستستلهم القيادات العربية الحالية التجربة الخليجية وتلحق بلدانها بركب التنمية؟ أم يتطلب الأمر قيادات جيل جديد لا تقبل بلا، ولا ترضى بالفشل، ولا تؤمن بالمستحيل؟
اللعنة الصينية كانت واقع العقدين الأولين من الألفية الثانية، ولكنها يمكن أن تتحول إلى حياة مليئة بالأحداث الشيقة "المشرقة" إن نحن تحولنا من منصة ردة الفعل إلى منصة صناعته، ومن إدارة الأحداث، إلى توجيهها، ومن دفع أثمانها إلى استثمارها. وحينها سيتحوّل القرن الحادي والعشرون إلى قرن القوى الصاعدة، الواعدة… ومعها العرب.