النهار

ورقة التين البيضاء و"التوافق" من فوق
اقتراع النواب في الجلسة الرابعة لانتخاب الرئيس (نبيل اسماعيل).
A+   A-
غسان صليبي

مرة أخرى صوّت نواب "الممانعة"، بورقة بيضاء في جلسة جديدة لإنتخاب رئيس للجمهورية. على الأرجح أن أحد الشيوعيين الممانعين قد أطلع أركان "الممانعة" على ما قاله كارل ماركس: "إنّ التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة ومرة على شكل مهزلة". ومع أن عقيدة "الممانعة" لا تفهم التاريخ إلّا كإعادة للأحداث منذ ١٤٠٠ سنة حتى اليوم، دون أن تعترف بالمأساة او تقر بالمهزلة، فهي لم تشأ تكرار ما فعلته عند انتخاب ميشال عون، اي مقاطعة الانتخابات لأكثر من سنتين حتى انتخابه، فقررت اليوم تعطيل الانتخابات لكن عبر المشاركة بالتصويت بالورقة البيضاء.

الورقة البيضاء هي مشاركة في الإنتخاب لكن دون التصويت لأيٍّ من المرشحين، فهي اعتراف بالعملية الديموقراطية مع الحرص على اعلان الاحتجاج على أسماء المرشحين. في الانتخابات كافة التي تجري في العالم، لم تشكل الورقة البيضاء يوما عامل تعطيل للانتخابات، بل تأكيد ضرورة إجرائها ولو بدون تأييد أحد المرشحين.

بعد ان شوّهّت "الممانعة" معنى الانتخابات النيابية، من خلال تهديد مرشحين واجبارهم على الانسحاب، أو من خلال إلغاء حرية الانتخاب من خلال اعتبار التصويت لمرشحين معينين واجبا شرعيا، استكملت مسار مسخ عناصر الديموقراطية عبر تغيير وظيفة الورقة البيضاء، لا بل أعطتها وظيفة نقيضة. أرادت "الممانعة" تحويل الورقة البيضاء إلى ورقة تين بيضاء، تغطي بها مأساة انتخاب ميشال عون رئيسا، ومهزلة تعطيل الانتخابات من بعد انتهاء ولايته.

من جهته كرر الفريق المعارض لـ"الممانعة" التصويت لميشال معوّض، الذي لا يزال يحصد ما يقارب الاربعين صوتأ. وحدهم نواب التغيير غيّروا سلوكهم ، متخلّين عن هفوة التصويت للشعارات، فصوّت معظمهم لشخصية من لحم ودم.

حسنا فعل بعض نواب التغيير وبعض النواب المستقلين، إذ صوّت عشرة من بينهم للصديق والرفيق الدكتور عصام خليفة، وهو من بين الأسماء المطروحة، أكثر من تنطبق عليه الصفة المزدوجة "سيادي إصلاحي". لكن للأسف، بحسب موازين القوى المحلية والخارجية، احتمال انتخاب الدكتور خليفة ضئيل جدا. من الأفضل في هذه الحالة المثابرة على التصويت له حتى اتضاح أسماء المرشحين الأوفر حظا وتجيير أصواتهم للمرشح الأقرب الى توجهاتهم. الأهم من كل ذلك الآن أن يضغطوا بما أتيح لهم من إمكانات، لإنتخاب رئيس قبل نهاية المهلة الدستورية، من خلال عقد جلسات يومية وتكثيف دورات التصويت وتطبيق ما ينص عليه الدستور. وكان نواب التغيير قد أشاروا في مبادرتهم الرئاسية الى انهم سيلجأون الى الضغط الشعبي بعد العشرين من تشرين الأول. لكن ليس معروفا إذا كانوا لا يزالون قادرين على تعبئة قسم من الشعب الذي انتخبهم، بعد الارتباكات التي صدرت عنهم، والانقسامات المتواصلة في صفوفهم.

على بُعد أقل من اسبوع على انتهاء المهلة الدستورية، ومع ان الدستور ينص على انعقاد المجلس النيابي حكما لإنتخاب رئيس قبل عشرة أيام من موعد إنتهائها، لم يلجأ اي طرف بعد الى خلق دينامية في المجلس النيابي تحتم انعقاده اليومي حتى انتخاب رئيس. فالرئيس بري دعا الى جلسة يوم الخميس المقبل وليس قبل ذلك، ونائبه ذكّره بأن الخميس قد يكون مخصصا لتوقيع إتفاقية ترسيم الحدود، مع ترقب وصول هوكشتاين يوم الاربعاء، مما جعل بري يعود ويقول للنواب ان الموعد غير ثابت وسيحدده لاحقاً. ولأن الرئيس بري تعمّد في مرات سابقة تحديد مواعيد لجلسات تتقاطع مع مناسبات سياسية تدفع البعض الى مقاطعتها، من حقنا الشك انه حدد موعدا الخميس حتى يكون هناك عذر لتتطيير الجلسة. فالرئيس بري غير مقتنع بضرورة التصويت على انتخاب رئيس، بل إنه، مع فريق "الممانعة"، يريدون الوصول الى توافق حوله. التوافق ليس ديموقراطيّة. الديموقراطيّة اختلاف في الرأي وتصويت. الأصرار على التوافق هو الخروج عن الديموقراطيّة وتعطيل لها.

هذه النزعة "التوافقية" لدى الفريق الممانع، لم تكن موجودة يوم انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية. فـ"حزب الله" فرض انتخابه فرضا على جميع الكتل، التي كانت ترفض ذلك قبل مسار التعطيل الطويل، الذي اضطرها للقبول بـ"التوافق"، الذي سُمِّي "إعلان معراب" بين عون وجعجع، و"التسوية" بين عون والحريري.

انتخاب ميشال سليمان كان أيضا نتيجة "توافق" فرضته غزوة "حزب الله" لبيروت وتم التوصل اليه في الدوحة، مترافقا مع اتفاق سياسي شمل قانون الانتخابات والثلث المعطل.

ليس معروفا بعد اي مسار من مسارَي "التوافق"، قررت "الممانعة اعتماده هذه المرة، وما إذا كانت ستبتكر مسارا آخر او مزيجا من المسارَين. عند انتخاب ميشال عون، لم تكن "الممانعة" تحظى بتمثيل واسع في المجلس النيابي، يسمح لها بفرض مشيئتها، تماما كما اليوم. لكنها اعتمدت على اتفاقات المحاصصة مع الحريري وجعجع، لجرّهما الى الخضوع. عند انتخاب ميشال سليمان استخدمت العنف العسكري لإخضاع خصومها والوصول الى "اتفاق الدوحة".اإستخدام القوة ليس مرجحا اليوم، لكنها تمتلك مصادر قوة أخرى: اولا، ترسيم الحدود مع إسرائيل وهيمنتها على المفاوضات مع شركات التنقيب والانتاج، وما يترتب على ذلك من تحكمها بالثروة المائية وقدرتها على "إقناع" خصومها بـ"التوافق" معها. ثانيا إمساكها الكامل بالملف الحكومي واقترابها من تأليف الحكومة بما يحصن سلطتها. ثالثا، البدء بتطبيق بعض ما يطالب به صندوق النقد الدولي (اقرار الموازنة وقانون السرية المصرفية)، مما يمهد ربما لإتفاق معه تبرمه وتدير عملية تطبيقه حكومتها التي هي قيد التأليف، ويفتح لها باب التمويل لتثبيت حكمها.

لا شك أيضاً ان "الممانعة" تراهن أكثر ما تراهن، على "توافق" من فوق، اميركي–إيراني، حول الرئاسة، تماما كما حصل بالنسبة لـ"التوافق" على إتفاقية الترسيم مع إسرائيل. وكما جاء "التوافق" على الترسيم لصالحها، تتوقع أن يأتي "التوافق" على الرئيس لصالحها أيضا. فترسيم الحدود مع إسرائيل هو الاساس وهو الذي "يرسّم" السلطة. وعلى الارجح انها تطمح ان يشمل "التوافق" على الرئيس تعديلا للنظام السياسي لصالحها أيضا، لا سيما ان الكلام عن مؤتمرات حوار في الداخل والخارج، بدأ يواكب مسار انتخاب الرئيس.
 

اقرأ في النهار Premium