أظن أن مونديال هذا العام حظي بتغطية واهتمام دوليين غير مسبوقين. فحتى من هم مثلي، من غير هواة الألعاب الرياضية، ومن بينها الكرة التي لا أفهم فيها قليلاً أو كثيراً، جرّني الحماس العام وتحوّل المقاهي إلى صالات عرض على الطرقات وانشغال وسائل الإعلام بتغطيتها لفترات طويلة في أوقات البث العادي، حتى إنها أصبحت من مقدمات نشرات الأخبار، كل ذلك أُصابني بالعدوى لمتابعة نتائجها.
هذا بالرغم من توافقي وأصدقائي على اعتبار أنه عالم مجنون ذلك الذي يصرف مليارات الدولارات، في هذا الوضع الدولي المتأزم، على لعبة رياضية. ثروات هائلة تصرف لتحضير الملاعب وعلى اللاعبين وأخرى للدعاية التي تروّج بدورها لمزيد من الاستهلاك غير الضروري. هذا في حين أن الكرة الأرضية تعاني من اضطرابات تهدّد مستقبل البشرية. من مشكلة الاحتباس الحراري وما ينتج عنه من تهديد لللايكوسفير والتنوع البيولوجي والكوارث الطبيعية. فلا ترصد الأموال اللازمة ولا التدابير لمعالجتها بالجديّة أو المسؤولية اللازمتين.
ناهيك عن الملايين المهدّدين بالمجاعة جراء الظروف الطبيعية والحرب العالمية الجارية على أرض أوكرانيا.
في هذا الوقت العصيب بالذات، استقطع العالم فترة للتهييص والترفيه والفرح غير المسبوقين.
في لبنان، أيام عنف الحروب المتناسلة والتهديدات التي كانت تحوم فوق رؤوس اللبنانيين، كانوا يخرجون للسهر الصاخب في حفلات البيوت والمطاعم والملاهي وأماكن اللهو، ويحتفلون بجنون، وكأنهم يتحدّون الموت، أو يأخذون وقتاً مستقطعاً للتعويض عن المعاناة والخطر المحدق طوال الوقت.
وهذا ما يبدو أنه حصل مع دورة المونديال هذه. الظروف التي مرّت وتمرّ بها الكرة الارضية، من كوارث طبيعية وصعوبات اقتصادية توّجتها جائحة كوفيد التي هدّدت البشرية وقلبت حياتها رأساً على عقب؛ بحيث شكلت تجربة الحجر أصعب تحدٍ لسكان الكرة وأنظمتها على جميع الصعد كما أشاعت الخوف من الموت. فتوقفت حركة الانتاج والصناعات، إلى حين اكتشاف الطعوم والأمصال والأدوية المضادة.
وما كاد الناس يتنفسون الصعداء حتى عاجلتهم الحرب على أوكرانيا. فاستعاد البشر دورة الخوف والمشاكل والمخاطر الناجمة عن اضطراب سلاسل التوريد للمواد الأولية والسلع.
من هنا يبدو أن ما جرى في هذا المونديال كان تعويضاً عن كل هذا الكبت والقلق والخوف والإحباط، بموجة تعويضية من الترفيه والفرح والاحتفال لبث بعض الروح في الحياة اليومية كي تستعيد سويتها.
وبمعزل عن الاستغلال السياسي، أو محاولة تسويق الدين كما المثلية الجنسية، كان للعرب حصتهم الجزيلة من الفرح. أولاً لأن المونديال على أرض عربية؛ فقطر ناضلت لسنوات من أجل استضافتها ولم تحبطها الجهود المضادة والإشاعات عن إنجاحها بجدارة. بحيث حصلت على إجماع عالمي أنها من أنجح وأجمل الدورات وأحسنها تنظيماً.
الأمر الآخر كان مفاجأة السعودية في تغلبها على الأرجنتين، وبطلها ميسي، الذي يسلّم الجميع أنه أفضل لاعب على الإطلاق حتى الآن. وأيضاً تأهل فريق الكرة المغربي لربع النهائيات لأول مرة في تاريخ البلدان العربية. كل ذلك ساهم في تفجير شعور موحد بالأخوة العربية، وتخطّى الخصومات بين حكوماتها.
الشعوب العربية متعطشة لأي نجاح أو إنجاز ووجدته في المونديال. وبما أن الجرح العميق يظلّ فلسطين، فلم ينسوا أن يذكّروا العالم بقضيتها العادلة، رغم أن البعض قرأها كمزايدة سياسية بين انظمة.
يظل السؤال: لماذا تأخذ الرياضة بالتحديد هذا الحيّز المتنامي؟
عالجت في كتابي "فخ الجسد" فصلاً عن الجسد الرياضي، وما الذي أعطى الرياضة هذا الموقع.
البداية كانت مع تغيّر العلاقة بالعمل خلال القرن العشرين المنصرم. فلقد نقصت ساعات العمل وانتظمت العطل المدفوعة الأجر للعمال وأصبح الترفيه من الضروريات، وبرزت أهمية اللعب وتحوّلت ألعاب المنافسة إلى محاكاة تنبذ العنف.
هناك ايضاً تغيّر العلاقة بالجسد. لم يعد الإنسان، الذي يبحث بالفطرة عن الجمال، يكتفي بما نضيفه على الجسد كي نجمّله. أصبح هناك ضرورة لأن يكون الجسد نفسه جميلاً ورشيقاً. وصار على البشر اكتساب الجمال بعرق الجبين: فاخترع الإنسان الرياضة. لذلك عرفت الرياضة الفردية نجاحاً متزايداً مع انتشار رياضة الركض (jogging)، وانتشرت الأندية المختصة بتمارين الجسد للحفاظ على ليونته وشبابه الدائم.
واكتسحت أخبار الرياضة وإنجازاتها الصفحات الأولى من الصحف إلى جانب أخبار الحروب والبطالة.
صار الجسد يملأ لوحات الإعلانات في المدن ويجتاح المجلات وجميع الشاشات. تمجيد الجسد والبحث عن تفوقه هما من اختراع المجتمعات الحديثة. مارس اليونانيون الرياضة من أجل تمجيد القوة أو لممارسة القسوة أو التغلب على الآخر ومن أجل الاحتفالات الدينية.
الآن تغير كل ذلك، اصبحت الرياضة احتفالاً، وتمجيداً للجسد، ولقولبته ولتقويته.
تمارس الرياضة الاحترافية الآن من أجل التفوق على الذات وتخطّي حدود الاحتمال بشكل متصاعد. يقترن الجمال ببذل الجهد من الآن وصاعداً. جسد خاضع لمعايير وله مواصفات ومقاسات محددة.
يؤكد الجسد الرياضي انتصاره ويدخل إلى حلبة المصالح الاقتصادية بصفته تلك فقط. وتدخل ميدان الرياضة معدات جديدة، حركات جديدة، بروتوكولات تمارين جديدة من أجل الحصول على نتائج وإنجازات تكاد تصل إلى حدّها الأقصى القابل للاحتمال. وأرقام الانجازات الرياضية تكسر واحدتها الأخرى من أجل تحقيق الرقم الأعلى.
تأخذ الرياضة اللاعب الأولمبي والعالمي إلى التزام معيّن يحمله على توظيف نفسه كفرد بشكل مكثف. فهو يقوم بمجموعة من التحضيرات والاحتياطات وأنواع العناية التي تجعله يعيش سلسلة من الأحاسيس المتشاركة مع كل الآخرين الذين يعرّضون أجسادهم للمنافسة الرياضية؛ هؤلاء الذين "يستغلون" الحد الأقصى من قدرة عضلاتهم والذين يتحملون الضربات ويقيمون علاقات تماس مع الآخرين. كما أنهم يتقاسمون مجموعة من الرموز: النادي والمايوه وغرفة الملابس والفريق وأمكنة التنافس، أي الحلبة والبيسين والجيمناز والملعب المغطى.
تجمعهم أيضاً قيم وتجارب متشاركة: التدريب والتحضير النفسي والتكتيك أو حس اللعب، العدوانية ومذاق النصر ولذة سماع الهتافات، كما الألم والتعب والإحساس بأنهم في شروط جسدية أعلى من الآخرين. تحوّلت رياضة الأريستوقراطية إلى أريستوقراطية بعض الرياضيين الذين يشكّلون فئة تتمتع بنوع من الانتخاب الطبيعي، فنجدهم في كل الطبقات والبلدان من دون تمييز سوى قدراتهم على الإنجاز الرفيع على المستوى الرياضي. وقدرتهم هذه تقلب حياتهم وتجعلهم كالمختارين على طريقة نيو بطل فيلم ماتريكس.
إن مدى توسع وانتشار الرياضة تجعل لها وتائرها الخاصة. تحمّل البطل الرياضي، بالإضافة الى الامتيازات، ثقل مسؤوليات والتزامات يومية مرعبة ينخرط فيها من أجل موهبته التي تشبه الدعوة، لكي يحافظ على مستواه المهني وعلى مستوى إنجازه معتمداً على التكنيك الذي يتمتع به وعلى صفاته الجسدية والعقلية.
ذلك كلّه يجعل هذا الشخص الموهوب يعاني من هامشية ما ويعرضه للضغط: فوظيفته عابرة ومهنته قصيرة، وهو معرّض للجروح والصدمات بشكل دائم. تتخلّل حياة الرياضي رفيع المستوى أزمات عدة وعليه مواجهتها وحيداً. من هنا الشعور بالعزلة والعذاب والوقوع في دورات من السترس.
انه عصر الرياضة وعالمها!
*نشر أيضاً في "الحرة"