الفرق بين الإبداع والبدعة شاسع جداً، وفي حين تعود الكلمتان الى نفس الجذر اللغوي، تبقى البدعة في غالب الأحيان محاولة ضعيفة وكسولة لوهم العامة وتمريرها على أنها عمل جديد وخلاق، كما هو الحال مع بدعة "حزب الله" الأخيرة بإعلانه عن مناورة عسكرية في ذكرى "التحرير" من الاحتلال الإسرائيلي للبنان في 25 أيار 2000.
مناورة "حزب الله" - الذراع العسكري للحرس الثوري الإيراني في لبنان- ليست بجديدة، فقد عودتنا هذه الميليشيات" على تقديم عروض عسكرية في مناسبات عدة، منها احتفالهم باحتلال مدينة القصير السورية وبعدها منطقة القلمون المحاذية للحدود الشرقية للبنان تحت ذريعة محاربة تنظيم داعش سنة 2016 وذلك بعد تهجيرهم سكانه المنتفضين ضد حكم بشار الأسد. اختلال وتهجير أهالي القلمون للمفارقة أدى الى تفاقم مشكلة اللجوء السوري، ويمنع عودة القسم الأكبر منهم في ظل احتلال "حزب الله" لقراهم ومدنهم التي تحولت إلى قواعد عسكرية ومعامل لتصنيع وتوضيب مخدر "الكبتاغون" تحضيراً لتهريبه إلى دول الخليج عبر لبنان.
إعلان "حزب الله" عن المناورة أتى عبر شريط فيديو ترويجي قصير، يظهر مجموعة من عناصره ملثمين، يخاطب قائدهم إسرائيل بالعبرية، أو ما يطلقون عليه "الكيان المؤقت الأضعف من خيط العنكبوت" ويعد فيه بإزالة إسرائيل. الإخراج المسرحي ملفت، لكنه ينم عن حاجة وأزمة وجودية لهذه الميليشيات التي امتهنت القتل الخاص لأفراد يعارضون توجهاتها أو لشعوب رفضت الديكتاتوريات والتدخل في شؤونها، مثلما فعلت في سوريا والعراق واليمن وغيرها.
ما زالت الميليشيات ترفع شعار "تحرير فلسطين" رغم جنوحها التام عما ادّعت أنه مهمتها الأساسية واتجاهها لمهادنة إسرائيل والتطبيع معها عبر الموافقة على صفقة الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل التي جرت العام الماضي.
في حين حرص "حزب الله" على التغطية الإعلامية للمناورة والاعتناء بملابس مقاتليه وإكسسواراتهم العسكرية من أسلحة وآليات عسكرية تقليدية مع مُسيّرات شبيهة بتلك التي تستعمل لتصوير حفلات الزفاف، ليخلص الإنتاج المسرحي كعامل تطمين لإسرائيل يؤكد عدم رغبة أو حتى قدرة "حزب الله" على فتح جبهة حربية. فالصورة التي عرضت شباباً ملثمين مدججين بأسلحة فردية على متن دراجات نارية ومدفعية ميدانية وآليات مطلية حديثاً لا يمكن اعتبارها تهديداً لـ"بيت العنكبوت" وبالتأكيد لا تشكل تحدياً للقبة الحديدية وبقية الأسلحة الجوية والبحرية العائدة للعدو، بدلاً من ذلك يمكنها أن تسبب الموت ضحكاً للقادة العسكريين في الكيان الصهيوني.
في واقع الحال، هذه المناورة تحولت إلى رسائل خارجية وداخلية، وتأتي بعد يومين بالضبط على انتهاء القمة العربية في جدة، لتذكر الجميع بأن القرار النهائي في لبنان يعود لسلاح "حزب الله" وأن انتخاب الرئيس القادم لهذه الجمهورية مرهون بهم حصراً.
لعل الرسالة الثانية الداخلية والأهم، هي لبيئة "حزب الله" الشيعية، والواضح أنه بعكس ما يروج عن سردية "المقاومة"، فإنها تعرف جيداً أن التزام "حزب الله" قتال إسرائيل أمر غير جدي، ومن هنا تأتي المناورة لإعادة التذكير أو بالأحرى تهديد هؤلاء وعبرهم كافة المجموعات اللبنانية بأن هذا السلاح موجود للاستعمال الداخلي في حال عدم الانصياع لمشيئتهم، كما حدث بالضبط في 7 أيار 2008 عندما استعمل سلاح "حزب الله" في الانقلاب على الدولة أو ما تبقى منها. رغم ذلك يأمل بعض اللبنانيين، ومنهم مؤمنون بـ"نهج المقاومة"، أن يبادر "الحزب" إلى دعم وتسهيل قيام ورشة إصلاحية وسياسية للنهوض باقتصاد لبنان المتهاوي، لكن الرد جاء مع المناورة التي تظهر أن الميليشيات لا تملك شيئاً إلا السلاح.
يعمل المحور الإيراني على الترويج لمفهوم "توحيد الساحات" ومحاولة إقناع العالم بأن ميليشياته المنتشرة في المنطقة قادرة عسكرياً على إشعال الحروب وحتى "تدمير إسرائيل"، وبأن المنظومة العسكرية الإيرانية المتحكمة بلبنان وسوريا والعراق واليمن قادرة على العمل كيد واحدة في أي واجهة قادمة مع إسرائيل.
لكن واقع الحال أظهر أن الميليشيات "الإيرانية" وعلى رأسها "حزب الله" نجحت في "توحيد الساحات" التي تصب في خدمة اقتصاد الظل، المنتشر من حوض البحر المتوسط إلى أفريقيا وأميركا اللاتينية، بحيث تتمكن طهران من استعمال قنوات غير شرعية تدير فيها تجارة المخدرات والجريمة المنظمة للحصول على الأموال وتبييضها.
توحيد الفساد لا يحتاج إلى مقاتلين من فصيلة لعبة الـ PUBG بل إلى قيادة شخصيات ضليعة بإدارة شبكات تبييض الأموال والاستثمارات على شاكلة المطلوبين للعدالة الدولية مثل محمد جعفر قصير، المعروف بالحاج فادي وحسيب محمد هدوان، المعروف باسم الحاج زين، والمدعو ناظم سعيد أحمد الذي يستغل عالم اللوحات الفنية وتجارة الألماس لتمويل "حزب الله". فلعبة الميليشيات الحقيقية هي تشتيت العامة عن شبكة الفساد الضخمة التي تأتي لهم بمليارات الدولارات والتي تذهب إلى جيوب قادة يعرفون بالمجتمع الشيعي باسم "حجاج المال الحرام".
الإهانة الكبرى التي يعيشها اللبنانيون هذه الأيام هي ليست بالسماح لميليشيات إيران باستباحة سيادة بلدهم، بل بقيام دولتهم عبر "المحكمة العسكرية" باستدعاء قائد الفوج المجوقل السابق العميد المتقاعد جورج نادر بتهمة "ارتداء سراويل مرقطة وقبعات عسكرية وتيشارتات (قمصان) عليها شعار الجيش" والتي ارتداها نادر مع رفاقه من المحاربين القدامى أثناء تحرك مطلبي بحقوق المتقاعدين والتي فشلت الدولة في الحفاظ على التقديمات المحقة لهم التي تحفظ كرامتهم الإنسانية.
العميد نادر هو بطل من أبطال القوات المسلحة في جبهات ومواقف عدة، أهمها معركة نهر البارد ضد "تنظيم فتح الإسلام الإرهابي" المدعوم من نظام بشار الأسد. تلاحق المحكمة العسكرية العميد نادر في حين ساهم "حزب الله" بتهريب عناصر "تنظيم داعش" من جرود عرسال بحافلات مكيفة.
مناورة "حزب الله" الأخيرة تفتح العين بوضوح لمعرفة أسباب اغتيال أحد أبرز قادة المقاومة اللبنانية في وجه العدو الإسرائيلي، جورج حاوي. فلو كان حاوي موجوداً لخرج إلى الإعلام بصوته وتاريخه النضالي، للتذكير بأن المقاوم الحقيقي يقدم نفسه ضحية على مذبح الشهادة "كي يحيا الآخرون، كي يحيا شعبك وقضيتك وتحيا بلادك"، وليس في خدمة مشروع مذهبي يمتهن القتل والفساد خدمة للطغاة.