سالي حمّود*
قد أبدو منحازة إلى ربط الإعلام بكلّ ظاهرة حديثة أو حدث عام، لما له من تأثير على جعل كلّ ظاهرة "ظاهرة".
تناول الظاهرة الأخيرة على شاطئ صيدا الجنوبيّ الذي يبعد كيلومترات قليلة عن شاطئ صور الجنوبيّ يستدعي معاينة الخطاب الحاليّ في كلّ من الإعلام التقليديّ والجديد، ومراجعة بعض من أرشيف شواطئ لبنان قبل غزو الكاميرات الشخصيّة المساحات العامّة، وقبل تموضع طموح جماعات إقليميّة ووطنيّة لتحويل لبنان إلى إمارة دينيّة، سواء أكانت إمارة إسلاميّة تحت لواء الأصوليّين أم إمارة مسيحيّة تحت جناح جنود الربّ.
الإعلام الجديد قدّم "أغورا" (Agora هي كلمة يونانيّة قديمة تعني مكاناً مفتوحاً للجميع) جديدة لكلّ موضوع اجتماعيّ، اقتصاديّ، ثقافيّ وتعليميّ وغيره من المواضيع التي تمازجت بين العام والخاصّ، إلى أن باتت كلّ القضايا الخاصّة قضايا رأي عامّ، لها تأثيرات مفصليّة في الحياة السياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة والقانونيّة والعلميّة والعديد غيرها.
والإعلام التقليديّ زاد اعتماده على تلك المساحات العامّة الجديدة. لأنّها أوّلاً في خدمة "الرايتنغ"، وثانياً لأنّها توفّر الوقت والجهد، وثالثاً لأنّها تستهلك قضايا ووجوهاً وأسماء استهلكتها وسائل التواصل الاجتماعيّ قبلها.
أنا شخصيّاً زرت شاطئ صيدا منذ أكثر من عشر سنوات بدافع الفضول، ولم أعدِ الكرّة ولن أفعلَ، إذ كنت أتساءل دوماً لماذا نمرّ مرور الكرام بشاطئ صيدا العريض، ولم نتحمّس أبداً لأيّ نشاط بحريّ فيه.
وكنّا نكمل طريقنا، نحو صور، ذلك الشاطئ الممتدّ على الحدود الجنوبيّة، وتحيطه "الضيع" والقرى التي عاش معظم أهلها تحت خطّ الفقر، ورحمة الدين، وأمل المقاومة. فالتباين الثقافيّ والتنوّع الاجتماعيّ في المشهد العام بين "مايوه" و"حجاب" وبين "بيكيني" و"شادور" يزيد الشاطئ سحراً في كلّ الأوقات وفي كلّ الفصول.
ولكن، ما الذي حصل ويحصل في مدينة "صيدا"، بوّابة الجنوب، تلك المحاطة بقرى مسيحيّة ذات انفتاح على المدينة وأهلها؟ وكيف تحوّلت قضيّة المايوه الفرديّ إلى قضيّة عامّة تهدّد السلم الوطنيّ؟
إنّ القضايا لا تتحوّل إلى قضايا رأي عام من دون إعلام وسياق.
السياق طبعاً هو النظام الأبويّ الذي يجعل الرجل وصيّاً على المرأة في كلّ ما تفعل وتفكّر وتشعر، كما السياق هو النسويّة التي حرّكت قفير الذكوريّة، وأشعلت مبدأ "يا غيرة الدين".
أمّا الإعلام، فقد بات فرديّاً ولا مركزيّاً، يبيح لمن شاء كلّ ما يشاء، وفي أيّ وقت يشاء، كما منح كلّ فرد الفرصة للتعبير والتوثيق والتعليق، وشمل كلّ النشاطات بينها.
من هنا، تحوّل كلّ نشاط اجتماعيّ أو سياسيّ إلى نشاط رقميّ في المساحات العامّة، يخاطب الجمهور من دون وسيط، ويهاجم "الخصم" من دون حسيب، ويضع المحتوى من دون رقيب، إلى أن ينتقل إلى مرحلة الحراك، لو مهما كان صغيراً أم كبيراً، ومن ثمّ إلى الإعلام التقليديّ الذي يعزّز من تموضعه في "تراندات" الإعلام.
وهذا أمر جيّد، إذ أنّ الإعلام الجديد هو الذي أنبأنا بهجمات "الجاهليّة" على شاطئ صيدا، وساعد في إيصال أصوات الناشطين الذين هرعوا إلى نجدة الشاطئ من أهله، و الإعلام الجديد هو الذي جذب الإعلام التقليديّ نحو تلك القضيّة العامّة.
الإعلام الجديد هو الذي فتح المجال أمام Digitopia من نوع آخر، ليتيح المنابر لتجييش المناصرين والمناوئين، وقد يكون هو من عمّم الخاصّ وجعل "الشواذ" قضيّة وطنيّة تتغلّب أهميّتها على كلّ القضايا المعيشيّة والاقتصاديّة والأمنيّة.
لا يمكن الاستخفاف بقدرة ذلك الإعلام على تحويل القضايا الخاصّة إلى قضايا عامّة، ودوره في حفظ الحريّات الشخصيّة ضمن حيّز الحريّات العامّة، تماماً كما يحفظ الحرّيات العامّة ضمن تلك الحرّيات الشخصيّة. والسبيل إلى ذلك تعزيز المحتوى التوعويّ، وتغيير الخطاب الإعلاميّ من أجل تعديل الخطاب الاجتماعيّ، واستدامة الزخم الجماهيريّ حول قضايا "مصيريّة" في تشكيل الحضارة في لبنان، الذي يواجه قضايا مصيريّة تتساوى في أهميّة تلك القضيّة.
القضيّة ليست نسويّة فقط، وليست قضيّة حريّات خاصّة و عامّة، والمسألة ليست معركة بين "مايوه" وشادور، وهي ليست معركة على مساحات عامّة، بل هي حتميّة التطوّر الاجتماعيّ نحو التقبّل والانفتاح من دون فرض ثقافات على أخرى، كما هي التأكيد على المفاهيم المشتركة بين الثقافات.
الانفتاح هو التعايش بالرغم من الاختلاف، ضمن نسيج اجتماعيّ غنيّ يضمن التنوّع والاندماج للجميع. الإعلام الجديد بات ساحة للجميع، فلنجعله ساحة افتراضيّة آمنة في ظلّ انعدام الأمان في الساحات العامّة الحقيقيّة.
*أستاذة جامعيّة