النهار

"نظام النيترات" يستنجد بالآيات الدينيّة لتجاوز أزمته الأخلاقيّة الحادة
غسان صليبي
المصدر: "النهار"
"نظام النيترات" يستنجد بالآيات الدينيّة لتجاوز أزمته الأخلاقيّة الحادة
تعبيرية.
A+   A-
 
يعاني "نظام النيترات" أزمة أخلاقيّة حادّة. منذ تفجير المرفأ وهو يفعل المستحيل لإبعاد مسؤوليّة التفجير عنه. فالجريمة كبيرة في حجم تفجير عاصمة وقتل أهلها. حتى ان إسرائيل التي أسسّت دولتها على الجرائم، والتي ترتكب الجرائم في كل يوم، لم تتحمّل أن يُزَّج باسمها في هذا التفجير الفظيع. فكيف بالذين بنوا عقيدتهم ومجدهم على مواجهة جرائم إسرائيل؟
 
النائب العام التمييزي غسان عويدات وبعد لقائه رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبّود، صرّح بـ"اننا في بلاد لم يعد فيها قانون"، وهو لم يجرؤ على القول ان القانون موجود، لكن ليس في البلاد قضاء يحكم بالإستناد الى القانون، وقوى أمنيّة تنفّذ الأحكام القضائيّة. وربما صرّح بذلك، لأنه عجز، في ردّه على القاضي بيطار، ان يستند الى القانون، لمواجهة قراراته. فلجأ الى آيتين دينيتين، واحدة إسلاميّة وأخرى مسيحيّة، كشكل من اشكال "الميثاقية الدينية". فبدأ فيهما رسالته الى البيطار، وتابع قائلا "بموجبه نؤكّد ان يدكم مكفوفة بحكم القانون ولم يصدر لغايته أي قرار بقبول أو رفض ردّكم أو نقل الدعوى من أمامكم". لاحظوا معي كلمة "بموجبه" التي تبعت الآيتين الدينيتين مباشرة، وكأنّه يستند اليهما لتأكيد ان يد البيطار "مكفوفة بحكم القانون". ها هو يستنجد بالدين لنصرة القانون، الذي صرّح علانية، بأنه لم يعد موجودًا في هذه البلاد. هذا يتجاوز التناقض الفاقع في فكر القاضي عويدات، ليؤشر الى أزمة أخلاقيّة حادة يعانيها "نظام النيترات" بكل فروعه، بما فيها القضائيّة.
 
فلنتذكر ماذا حصل عندما قرر "الثنائي الشيعي" مقاطعة اجتماعات الحكومة حتى تنحية القاضي البيطار. فجأة، كان على كل شيء ان يتوقف، عندما اصبح "نظام النيترات" في خطر. لا حكومة، لا مفاوضات مع صندوق النقد، لا متابعة لأزمة الكهرباء، ولا لارتفاع سعر الخبز والمازوت والبنزين. على الحياة أن تتوقف، حتى تضمن الحكومة أمن "نظام النيترات"، من خلال إقصاء القاضي البيطار. بعد ذلك، هدّد وفيق صفا القاضي البيطار من داخل قصر العدل وأصرّ على ان يكون تهديده علنيا ومعمما على الاعلام. "نظام النيترات" لا يتورّع عن اللجوء الى كل المحظورات السياسية، لمنع اتهامه بتدمير عاصمة بلاده وقتل اهلها. إنها "الضرورات التي تبيح المحظورات". والضرورة هي "بلوغ الحد الذي اذا لم يجر اقتراف المحظور حصل الهلاك للمضطر". الهلاك في هذه الحالة ليس جسدياً أو مادياً، بل أخلاقي.
 
ليست المرة الاولى يستعين فيها "نظام النيترات" بالدين لمواجهة البيطار. ففي مسيرة "حزب الله" وحركة "أمل" الى قصر العدل مرورا بالطيونة، التي ادت الى وقوع احداث امنية، رُفع شعار: "ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء"، وقد علّقت على ذلك في حينه: "بل ويل لأمة او لبلاد يعتقد شعبها أن قاضي السماء يعاقب قاضيا يعمل من أجل العدالة على الأرض".
 
كل نظام يحتاج الى تبريرات ايديولوجية وأخلاقية ليحكم ويستمر، حتى النظام القائم على العنف العاري. بعضنا لا يزال يتكلم عن "النظام الرأسمالي، النيوليبرالي، الريعي"، أو عن "النظام السياسي الطائفي"، او عن "نظام الطائف"، لتوصيف النظام اللبناني. ولكل من هذه الانظمة ايديولوجيتها وتبريراتها الأخلاقية.
 
لكن "نظام النيترات"، تصدّر فجأة الأنظمة الأخرى بعد انفجار المرفأ. لم يكن غائبا من قبل، لكنه كان مختبئا وراءها، ولم يكن يبرز وجهه بهذا الوضوح. ها هو اليوم في الواجهة، يستعين بالانظمة الاخرى عند الحاجة، فهو جزء منها، لكنه مستعد أيضا أن يضحّي بها إذا وجد نفسه في خطر. وهو اليوم في خطر نتيجة تحقيقات القاضي البيطار.
 
من عادة النظامين، الرأسمالي والطائفي، اللذين تآلفا وتساندا في بنية الدولة، أن يتلبسا النظام الديموقراطي، ويتأقلما معه رغم الأزمات الدورية. اما "نظام النيترات"، الذي سمح له الهامش اللاديموقراطي في النظامين، بالترعرع والنمو، فيبدو انه يعجز كليا عن تحمّل عبء الديموقراطية وفصل السلطات. فلا انتخاب لرئيس الجمهورية بل "توافق" على اختياره، ولا حكومة تجسد الاكثرية النيابية، كما هي الحال في النظام الديموقراطي البرلماني، بل حكومة تحاصصية بين الزعامات الطائفية مع ثلث معطّل للجهة المهيمنة مباشرة او بالواسطة. ولا سلطة قضائية مستقلة، بل خاضعة للسلطة التنفيذية. عدم احترام فصل السلطات، ليس من إبداعات "نظام النيترات" وحده. فقد شهدت ممارسات الحكم في السنوات الاخيرة، مخالفات للدستور تُرجمت بتداخل كبير بين السلطات وتعدّي بعضها على صلاحيات بعضها الآخر. ولعل تزايد المخالفات الدستورية في السنوات الأخيرة، هو من اعتمال "نظام النيترات" داخل النظام الدستوري نفسه.
 
فقد جعل "نظام النيترات" من دمج السلطات قاعدة لحكمه. إن هذا التورط الرئاسي- الحكومي- البرلماني- العسكري- القضائي- الإداري في انفجار المرفأ هو خير مثل على ذلك. إن المسألة اعقد من وجود دويلة داخل الدولة، كما درجت العادة على القول. إنها إعادة تشكيل بنيان الدولة، بحسب مصالح "نظام النيترات" الذي تقوده الدويلة. ومن الأصح القول إن اعادة تشكيل بنيان الدولة نفسه، بحسب منطق "نظام النيترات"، قد أطاحت مفهوم الدولة نفسه.
 
دخول نيترات الامونيوم واستخدامه في مرفأ رسمي كمرفأ بيروت، حيث تتداخل سلطة "حزب الله" مع السلطات الرسمية، والصمت الرئاسي- الحكومي- البرلماني- العسكري- القضائي- الاداري حوله لمدة سبع سنوات، لا يمكن أن يتما إلا في إطار نظام متماسك، سمّاه رمزيا أهالي الضحايا "نظام النيترات".
 
"نظام النيترات" ليس نظاما محليا فحسب. فمؤشرات ضلوع رجالات النظام السوري في استقدام النيترات من أجل استخدامها في براميله المتفجرة، كثيرة. لكن الصفة الإقليمية لـ"نظام النيترات" يستمدها أكثر من خلال ارتباط تنظيم "حزب الله" العضوي بالنظام الإيراني.
 
تماسك "نظام النيترات" وارتباطاته الاقليمية، لا يغنيانه عن الحاجة الى تبريرات اخلاقية وايديولوجية، لم يعد قادرا على استعارتها لا من النظام الرأسمالي ولا من النظام الطائفي اللذين يشهدان انهيارا متسارعا، ويعممان الفقر والفراغ السياسي. وإذا بالقاضي بيطار يطل برأسه ويتهم اركان "نظام النيترات" او من يمثلونهم، على المستويات السياسية والامنية والادارية والقضائية، بتدمير عاصمتهم وقتل شعبها. فكيف يمكن لهذا النظام المفلس سياسيا واقتصاديا، ان يتقبل فضح ما تبقى له من ذرة أخلاق؟
 
لا اعتقد، للأسف، أن البيطار يستطيع الصمود امام الهجمة المضادة التي بدأت عليه، حتى ولو افترضنا مساعدة قضائية اوروبية واميركية، كما بدا مؤخرا. افضل طريقة دفاعية للبيطار هي في الهجوم عبر اصدار قراره الظني وفي اسرع وقت. فالقرار سيحمل معه الصفعة الاخلاقية التي يخشاها "نظام النيترات"، ولا يخشى غيرها في ظل دعاماته العسكرية والمؤسساتية، وبعد التطبيع معه، اميركيا واوروبيا واسرائيليا، من خلال ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل.

اقرأ في النهار Premium