كنت أعمل مستشاراً في مكتب للعلاقات العامة والإعلام بمدينة جدة، عندما شرفنا الأخ العربي المتقدم لوظيفة مدير التسويق. حضرت المقابلة صاحبة الوكالة
وبعض العاملين في القسم. بدأ صاحبنا بتقديم نفسه، فاختصر، ثم فصّل في رؤيته لمشهد السوق السعودية والعربية والدولية. اضطررت لإيقافه أكثر من مرة لأسأله عن تفسير أو ترجمة بعض المصطلحات الأجنبية، فأجاب عن بعضها وتلعثم في الأخرى.
"الطبيخ" اللغوي
بعد المقابلة وخروج الضيف، ضحكت المديرة، وهي تقول: كيف تجرأت وأنت دكتور في الإعلام، وخريج جامعة أميركية، أن تسأله عن ترجمة مصطلحات مهنية؟ بصراحة لم أكن أعرفها، وأشكك أن أحداً من الحاضرين فهمها، ولكننا خجلنا من كشف جهلنا، فسكتنا.
أجبتها، بالمثل الشعبي، "نصف العلم قولة ما دريت". وإلى ذلك فقد شعرت بأنه يتعمد استخدام مصطلحات أجنبية غريبة، يخلطها بالعربية، ليبهرنا ويحرجنا ويقنعنا أنه "أفهم منا". والأهم، أن يصرفنا عن طرح أسئلة لا يود الإجابة عنها، مثل سيرته الذاتية وانجازاته التي وعد بعد إلحاح أن يزودنا بها.
وبالفعل، اكتشفنا في اللقاء التالي أنه طبّاخ في فندق شهير بعاصمة عربية، وإنكليزيته وخبرته "فهلوة" وادّعاء، وكلّ ما لديه من معلومات استقاها من زملاء له بقسم التسويق في الفندق، فحفظها وكررها من دون استيعاب.
تهجين اللغة
ليس وحده، فجيل كامل بات يتباهى بهذا الخلط العجيب بين اللغات والمصطلحات، حتى في كلامه ورسائله على وسائل التواصل، ليقنعك بأنه متعلم، ولغوي، ومنفتح على العالم. فالعبارة أو المسميات التي كان في الإمكان كتابتها أو الاشارة اليها باللغة العربية تخرج هكذا: (ومثل ما انتم "سيينق" "الايكنومي" العربي صاير معتمد "فري متش" على "الماركتينق"، لأن "الكستومر" و "هيز فاملي" ما عاد يطلعوا "شوبنق" بـ"المولات" و"الهايبر ماركت" أو حتى "أون لاين" إلا بعد ما يعملو "سيرش" على "الآدز" وإخبار "الماركت" و"البرودكت" ع منصات "السوشيال ميديا").
المشكلة الأكبر أن هذا الجيل لا يرى غضاضة في ذلك طالما أن الاتجاه العام هو هذه العولمة اللفظية، فأسماء المحال والشوارع والميادين والمشاريع تسمى بالطريقة نفسها، فهذا الطريق "بولفارد العرب"، وهذا المجمع التجاري "العرب مول"، وذاك الميدان "سكوير التوحيد"، والممشى "ووك الياسمين"، والمرفأ "مارينا العروبة"، والحديقة "مدينة بارك". وأسماء القنوات والبرامج "الجزيرة سبورت إن" و"ام بي سي أكشن" و"عرب آيدول" و"دريمز" و "توب شيف" و"ذا فويس"، ولا تسأل عن اسماء الشركات مثل "اس تي سي"، "ريد سي قلوبال" "سعودي أوجيه".
عقدة الأجنبي
علّقت على شباب افتتحوا مقهى "الكوفي تايم" و"شاورماز ديليشوس" و"فلافل ديلي" و"آي ام هنقري" و"أوفر دوز كافيه"، هل عقمت اللغة العربية؟ فجاءت الإجابات كلها "الجمهور عايز كده". فالمسميات الأجنبية والهجينة، وكتابة اللوحات باللغة الإنكليزية، والإسبانية أو الفرنسية، توحي أن المحال دولية وعلامات تجارية عالمية. وهذا يسمح لك مع الديكورات والموسيقى والملابس الأجنبية، ومع قائمة الطعام المكتوبة بلغة "هجينة"، برفع الأسعار أضعافاً مضاعفة. فسعر قطعة خبز "التميز" مثلاً، بريال واحد فقط، من المخبز الأفغاني، ولكنه يصبح بخمسة أو عشرة ريالات في محل "تميس فاين" الذي يصفه في قائمة الطعام بـ"خبز مكون من بودرة القمح الأسترالي الفاخر، مع الخميرة الفرنسية الريفية، والسمنة المستخرجة من حليب الماعز في جبال الألب السويسرية".
إذاً المشكلة مشكلتان. فهناك جمهور أصبح ينظر بدونية الى لغته وثقافته، وبإعجاب الى لغة وثقافة الأمم المتغلبة، كما يفسر لنا عالم الاجتماع، عبد الرحمن ابن خلدون. وهناك حكومات وشركات وقنوات إعلامية (خاصة برامج الراديو أف أم) ركبت الموجة بدلاً من أن تصححها، وتدنت بلغة التخاطب، كما يفعل الكبار مع صغارهم، ونخب مثقفة ومؤسسات إعلامية وتعليمية لم يُغضبها الأمر لحد الاحتجاج عليه، أو ركبت الموجة هي الأخرى، فشرعنت بذلك هذه اللغة الهجينة التي أسميتها "أراب تيز"، وسمحت لأجيال من خريجي المدارس والجامعات بالتعالي على لغتهم العربية وثقافتهم العروبية، والتمسح بلغات وثقافات أجنبية، والكتابة المشوهة، لغةً وأسلوباً وإملاءً.
العولمة اللغوية
ربما لسنا وحدنا، كأمة، فالفرنسيون مثلاً، يشكون تغوّل الإنكليزية وثقافة الراب وهوليوود وماكدونالدز. ولكنهم على الأقل يواجهونها على أعلى المستويات، السياسية والثقافية والتجارية. فهناك الفرنكوفونية التي تعنى بالثقافة الفرنسية وثقافة مستعمراتها السابقة، وهناك التدابير القانونية لحماية المنتجات الوطنية، وهناك الاستراتيجيات التعليمية، والتي تشمل حتى المهاجرين والمقيمين والمغتربين.
وفي المقابل، ماذا فعلنا كأمة عربية؟ العالم يحتفل باليوم العالمي للغة العربية، وعام الخط العربي، وتحتفي الأمم المتحدة ومنظماتها، كمنظمة التعليم والعلوم والثقافة، اليونسكو، بالعربية كلغة رسمية، فأين هي مبادرات الجامعة العربية، ومجلس التعاون الخليجي، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم؟ ماذا قدمت المنظمة العربية للترجمة وغيرها من المراكز الرسمية لتحديث معاجم وقواميس اللغة العربية؟ ماذا قدمت جامعاتنا وكليات اللغة العربية ومعاهد الثقافة والفنون لحماية تراثنا وتطويره ونشره؟
مغرب العرب ومشرقهم
ثم أين الاستراتيجيات التعليمية، والقوانين الإدارية الملزمة باستخدام وإجادة اللغة الأم، لغة القرآن والثقافة والتاريخ. وكيف نسمح للجهات الرسمية والخاصة بالتخاطب مع الجمهور باللهجة الدارجة والهجينة؟ وأين الأسرة عن كل ذلك؟ أين الأب والأم من تربية جيل لا يحسن القراءة والكتابة والتعبير؟
أليس من المفارقة، أنه في الوقت الذي تعود بلاد المغرب العربي الى لغتنا، يبتعد المشرق العربي عنها؟ وفي الوقت الذي يتباهى الفرس والروم بلغاتهم وثقافتهم ويدافعون عنها في وجه العولمة الفكرية، والتواصل المفتوح، يتناسى العرب ثقافتهم، ونغرق في ثقافة الآخرين؟ الوقت ليس في صالحنا، فالأجيال تكبر وتتخرج وتقود، وإن لم نعنَ اليوم بغرسنا سنجني غداً حصاداً بلا انتماء الى أرض وجذور.