النهار

ذبح نيّرة وأخريات… الوحش الذي يسكننا
الضحية نيّرة أشرف.
A+   A-
محمد القزاز
 
في مصر، كما في كل البلاد، لعبت السوشيال ميديا لعبتها. سيطرت على الشاشات والساحات. شغلت البلاد والعباد. لم ينتبه أحد إلى ما تنقله من حوادث مقلقة وعنيفة في المجتمع للبحث والعلاج. لم يعتبر البعض أن ما تقدمه جرس إنذار مجتمعي خطير. تفرغ الجميع  للسخط عليها وتوجيه الانتقاد إليها. 

العنف الفردي تجاه المجتمع موجود منذ بدء الخليقة، لكنه في السنوات الأخيرة تبدّى في أسوأ مظاهره، وكأنه ثورة عكسية، ليس ضد السلطة أو من يمثلها، بل ضد الأطراف الضعيفة في المجتمع وهي كثيرة.
حادث المنصورة الأخير الذي أدمى القلوب، حين نحر فيه شاب فتاة كان يحبها وتقدم لخطبتها ورفضت، هو إنذار جديد سبقته إنذارات أخرى شهدها المجتمع خلال الآونة الأخيرة: قيام عاطل بذبح أحد العمال وفصل رأسه عن جسده في الإسماعيلية شرق القاهرة، وتجول بالرأس في شوارع المدينة الهادئة. حالات الانتحار المتكررة احتجاجاً على أوضاع سياسية أو أزمات اقتصادية أو قلاقل اجتماعية. منها اثنان في نفس يوم مقتل طالبة المنصورة نيرة علي، وقبلها بعام، اثنان من طلاب الجامعة، أحدهما في كلية الطب والآخر فى كلية الهندسة، استأجرا غرفة في أحد الفنادق بمدينة الإسكندرية شمال البلاد وقررا الانتحار. 

ما الذي يحدث في مجتمعاتنا؟ أو ما الذي حدث؟ ما برح المفكرون يتساءلون عما حدث وتغير في مجتمعاتنا. هل هو القهر بصوره المتعددة، فأنتج لنا إنساناً مقهوراً وجد سبيلا للتعبير؟ هل هي أوضاع اقتصادية أنتجت فقراً أذلّ أعناق الرجال؟ في البحث عن القهر وأسبابه لم أجد أفضل مما كتبه عالم النفس اللبناني الكبير مصطفى حجازي منذ سنوات عديدة  في كتابه مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور: "الإنسان المقهور في العالم المتخلف، بدلاً من أن يثور ضد مصدر عاره الحقيقي، يثور ضد من يمثل عاره الوهمي وهو المرأة المستضعفة". ثم يصف حجازي العنف بأنه " يبقى الوسيلة الأخيرة في يد الإنسان للإفلات من مأزقه ومن خطر الاندثار الداخلي الذي يتضمنه هذا المأزق. والعنف هو السلاح الأخير لإعادة شيء من الاعتبار المفقود إلى الذات من خلال التصدي مباشرة، أو مداورة للعوامل التي يعتبرها مسؤولة عن ذلك التبخيس الوجودي الذي حلّ به. العنف هو لغة التخاطب الأخيرة الممكنة مع الواقع ومع الآخرين، حين يحس المرء بالعجز عن إيصال صوته بوسائل الحوار العادي، وحين تترسخ القناعة بالفشل في إقناعهم بالاعتراف بكيانه وقيمته". تلك الحوادث هي مؤشرات ثورة؟ لكنها ثورة داخلية تبعث برسائل شديدة الخطورة والأهمية في آن؟
 
مجتمعاتنا منذ بدء الألفية توالت عليها النكبات والصدمات، من احتلال العراق إلى الأزمة المالية العالمية فمرورا بأحداث الربيع العربي التي زارت معظم أوطاننا فحولتها إلى مجتمعات هشة ومتحاربة، وأورثتها الفقر والصراع، وصولاً إلى الوباء القاتل والمدمر كوفيد- 19 وليس انتهاء بأم الكوارث الحرب الروسية الأوكرانية. هذه الأحداث كلها تركت مخاطر اجتماعية شديدة، تشهد وتيرتها ارتفاعاً حاداً على المدى الأطول، اختبرنا منها أحداث الشغب والمظاهرات المناهضة للحكومات وسياساتها. الآن، هناك وجه آخر لهذه القلاقل الاجتماعية تتبدى في الصور التى نراها من ذبح الطرف الأضعف إلى التخلص من الحياة إلى قتل الأولاد خوفاً من مستقبل مظلم ومجهول.
 
أي وحش هذا الذي يسكننا. هل وحش وسائل التواصل الاجتماعي الذي أظهر الجانب المظلم والسيئ والسلبي في المجتمع لتصبح الأداة الأكثر خطورة على تماسكه، وإصابة العديد من الأشخاص بأمراض نفسية متعددة نتيجة الضغط المهول للأخبار السلبية التي يعاينها الفرد على مدار اليوم. أم وحش القهر الاجتماعي والفقر الذي يدفع البشر إلى هذا العنف المميت وتحقيق مطامعهم من دون رادع داخلي؟ من يروّض الوحش الذي يسكننا؟ ومن ينتبه إلى تلك المخاطر المهولة التى تهدد تماسك مجتمعاتنا؟ إننا أمام تحدٍّ جديد يتمثل في البحث عن عقد اجتماعي ويتناسب مع كل دولة. عقد اجتماعي مطلوب من كل المؤسسات والهيئات الشبابية والتعليمية والأمنية والسياسية.
 
*كاتب وصحافي مصري
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium