النهار

الأب
الأب مترفّع عن الدنيا والدنيويات. كأنه يمشي على غيمة. لا تهمّه المظاهر، لا يهمّه رأي الناس، لا تهمّه الثروات والأملاك.
A+   A-
جمانة حداد         


إلى عطالله

أيام الأسبوع، يعود الأب الى البيت من عمله في تمام السابعة مساء. يسأل ولدَيه عن المدرسة والدراسة. فقط عن المدرسة والدراسة. يتناول وجبة العشاء، ثم يجلس على كرسيّه، يفتح كتاباً ويقرأ. أيام العطل، يستيقظ الأب مبكراً، يعدّ قهوته بنفسه، ثم يجلس على كرسيّه، يفتح كتاباً ويقرأ. الأب لا يتنزّه. لا ينزِّه. لا يزور الأقارب. لا يذهب الى البحر. لا يصعد الى الجبل. لا يشارك في المناسبات الاجتماعية. لا يحبّ المشاوير. الأب فقط، الأب دائماً، يفتح كتاباً ويقرأ.

الابنة تقدّم إلى الأب دفتر علاماتها باعتزاز. الأولى على صفّها. معدّلاً عاماً ١٨ ونصفاً على عشرين. "علامة غير مسبوقة"، تقول للأب بفخر. ينظر الى الدفتر، ثم ينظر اليها، ويعلّق: "ليش مش ٢٠ على ٢٠؟". هو يعلم جيداً أن معدّل العشرين مستحيل، لكن الأب هو هكذا: دائماً يطلب المستحيل من ولديه في مجال الدراسة. دائماً يتوقّع أكثر منهما.
 
هما، حتى اليوم، يتوقّعان دائماً أكثر من نفسيهما.

الأب يصطحب طفلته الى المدرسة. واحدة من مرّات نادرة، تعدّ على أصابع اليد الواحدة. يستقلان سيارة سرفيس. هو في المقعد الأمامي، وهي في حضنه. طوال الطريق، تحاول أن ترفع جسمها عنه خوفاً على رجليه من ثقلها. هو يُجلِسها، وهي تنهض. الطفلة في السادسة أو السابعة، "خِفّ الريشة"، لكنها لا تريد أن تثقل عليه. هكذا ظلّ الأب طوال حياته، لا يريد، لا يقبل أن يثقل على أحد. خفيفاً كالنسيم، كَمَن نتذكّر، ونبتسم، عندما لا نقصد أن نتذكّر أحداً.

صَموت، الأب، لا يحبّ الحكي، ولا، خصوصاً، الثرثرة. لكنّه عندما يتكلّم، يقول. متضلّع من الأدب، من التاريخ، من الفلسفة، من السياسة. كانت ابنته لا تمشي بعد، عندما علّمها الأبجدية. يحملها كل يوم أمام مكتبته، كنزه الوحيد، ويقول لها: أ، بي، سي... عنيد هو الأب. مثله ولداه. حرٌّ. مثله ولداه. حبّه ليس كلمات، بل عطايا. حنانه من بعيد، لكنه يلفّ كضمّة. كغطسة في محيط دافئ. ضحكته نهر. شريانُ حياة ضحكته. عيناه صغيرتان، لكن تبتسمان تبتسمان.

الأب مترفّع عن الدنيا والدنيويات. كأنه يمشي على غيمة. لا تهمّه المظاهر، لا يهمّه رأي الناس، لا تهمّه الثروات والأملاك. متقشفٌ، ليس حَذَراً أو قسْراً بسبب ظروف العيش الصعبة (جداً)، بل لأنه هو هكذا. حتى لو كان مليونيراً، كان ليكون هكذا. يأبى أن يشتري ثياباً أو أحذية جديدة قبل أن تتهرأ تماماً تلك التي يرتديها أو ينتعلها. يحبّ أشياء قليلة: الى الكتاب، كأس العرق أيام الآحاد. الطرنيب مع الأصدقاء في ليالي الحرب والقصف. أن يتفوّق ولداه. أن يلمعا. دائماً أكثر. دائماً أبهى. يحبّ أيضاً سيكارته "الجيتان ماييس".
لفرط ما أحبّها، قتلتْه. بعض الأمثلة صحيحٌ حتى الموت. حتى القتل.

لم يتفوّه الأب بكلمة بذيئة واحدة طوال حياته. لم يزعبر، لم ينصب، لم يتشاطر، لم يساوِم، لم يؤذ أحداً عن قصد. ظلّ يراعي، يسمو، يتحمّل. "شو آدمي"، كان يقول عنه بإعجاب لطفاء هذه الأرض. "شو آدمي"، كان يقول عنه باستخفاف سفهاء هذه الأرض. القيم حازمة، الأخلاق شاهقة، المعايير تعجيزية.

يا لحظّ أن يكون لإنسانَين أبٌ كهذا، يا لصعوبة أن يكون لإنسانَين أبٌ كهذا.

الأب، مَن يعلم أين هو الآن، أو ما إذا كان في مكانٍ ما؟ تكثر الفرضيات. اللايقين هو الحقيقة الوحيدة.

لكنه، أينما كان، أينما لم يكن، سأراه دائماً، الأب الحبيب، كما يحبّ، كما يستحقّ أن يُرى:
جالساً في قلبي وفي قلب شقيقي، بين يديه كتابٌ. ويقرأ.



الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium