النهار

في حضرة سقراط: نظرة الى ديموقراطية لبنان من أثينا مهد الفلسفة والديموقراطية
غسان صليبي
المصدر: "النهار"
في حضرة سقراط: نظرة الى ديموقراطية لبنان من أثينا مهد الفلسفة والديموقراطية
تمثال لسقراط.
A+   A-
لم أكد أصل الى أثينا حتى اتصلت ذهنياً بسقراط. نزعتي الانسانية لم تعد تحتمل مثالية افلاطون ومدينته الفاضلة، ولا حقائقه المطلقة. بت أجد فيها نوعاً من التعذيب ومن الضغط المعنوي والنفسي على البشر الذين يكافحون يومياً من أجل تدبير أمورهم بما تيسّر، في عالم من التعقيدات الحياتية، التي يسقط بعضها عليهم كالقدر الغدّار. لم أكن مستعداً، أيضاً، للدخول في تنظيرات عميقة حول الواقع مع ارسطو، انا القادم من بلاد سقطت فيها كل التحليلات أمام انهيار البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولم نعد نجد نظريات نركن إليها لفهم ما يحصل معنا ولتوقع ملامح مصيرنا. لذا فضّلت رفقة سقراط، الذي يجمع بين التساؤلات حول الوجود من جهة، والسخرية من المسلمات والحقائق المطلقة، من جهة أخرى.
 
جلست في مقهى في إحدى الساحات التي افترضت أن سقراط كان يعلّم فيها. لكن كيف استحضره ليجالسني؟ تذكرت فجأة انه قال "تكلّم حتى أراك"، فتكلمت بصوت عالٍ، مبدياً رأياً نقديا بالحكومة اليونانية، وتخيّلت انه أتى اليّ مرحّبا، وجلس قبالتي الى الطاولة. رحنا نتكلم عن أثينا كمهد للفلسفة والديموقراطية، فشرح لي كيف ترعرعتا معا، بمحبة احيانا وبجفاء احيانا أخرى.
 
سقراط يكثر في العادة من طرح الأسئلة لكنه متواضع ومتأنٍ على مستوى الاجوبة. لاحظت انه لم يكثر من الاسئلة معي، ربما لأنه اعتبرني سائحا اتطلع الى الاسترخاء، فلم يشأ ان يتعبني كثيرا بمحاججاته الفكرية، وتركني استرسل في تحليلاتي الخاصة. في المقابل وجدت نفسي مضطراً للتأني في التحليل قدر المستطاع، في حضرة سقراط، انا المتعب حقا، والمتطلع الى شيء من الراحة. وقد دار بيننا الحوار الآتي:
*الفلسفة في اصلها الإغريقي تعني حب الحكمة، فما الحكمة من حب الحكمة، سألت سقراط متفلسفاً؟
 
- اعتقد ان حب الحكمة هو من متطلبات حب الحياة، فالحياة المليئة بالصعوبات يحتاج عيشُها إلى حكمة، ولا يمكنك أن تجيد استخدام الحكمة إذا لم تحب الحكمة.
* بحسب ما فهمت، الفلاسفة يفتكرون حياتهم ويعيشون افكارهم من خلال التساؤل وممارسة الفضيلة. لكن كيف تعيش حياتك وانت في تساؤل دائم؟ كيف تمارس الفضيلة اذا ترافقت مع التساؤل الدائم، أليست الفضيلة مفهوما عاما يحتاج دائما إلى التدقيق في معناه، عبر التساؤل؟
 
- لأن الفلسفة هي حب الحكمة، اعتقد ان الفلاسفة أرادوا التوفيق بحكمة بين التساؤل الحر حول الوجود والتمسك بالفضيلة. اما انا فكان مصيري القتل، لأن السلطة اعتبرتني مسست ببعض الفضائل بتساؤلاتي. تلميذي افلاطون انزلق كثيرا بمثالياته نحو الفضيلة، ربما لأنه اراد ان يتفادى مصيري. فيما تلميذه ارسطو حاول التوفيق بين التساؤل والفضيلة من خلال معاينة الواقع الملموس، وهكذا جاءت فلسفته كأنها محصّلة فكرية جدلية لما تعلمه من استاذه وما تعلمه استاذه مني.
 
*يأخذني هذا النقاش يا سقراط، الى حال الديموقراطية في لبنان. اعجبني هذا التناغم بين الديموقراطية والفلسفة، او هذه النشأة المتزامنة في احضان أثينا. ديموقراطيتنا في لبنان متعثرة جدا لا بل شبه ميتة، ولعلها تفتقر الى شيء من الفلسفة. سأتوقف حصريا عند التأثير على الديموقراطية، لغياب الفضيلة من جهة والتساؤل الحر من جهة أخرى. ما رأيك؟
- خذ راحتك، ولا يهمك، سأتدخل عند اللزوم.
 
*فلنأخذ مثلا الفضائل الاربع المتداولة في زمنك: الحكمة والعدالة والشجاعة والاعتدال. من السهولة ملاحظة ضعف انتشار هذه الفضائل في لبنان اليوم. الجهل والتفاهة بديلا من الحكمة، التعسف والظلم بديلا من العدالة، الخوف والجبن بديلا من الشجاعة، والتطرف بديلا من الاعتدال. مع العلم ان انتشار هذه الفضائل ولو في درجات متفاوتة، كان مقبولا في فترات سابقة. لعلنا نحتاج إلى إعادة إحياء هذه الفضائل اذا أردنا إعادة الحياة إلى ديموقراطيتنا، التي تتطلب في ممارستها الصحيحة، على ما أظن، حكمة وعدالة وشجاعة واعتدالا.
- حسنا حسنا، أكمل.
 
*قامت منهجيتك على التساؤل بحرية حول مسائل الوجود، والحرية أيضا يجري لجمها في بلادي. فباسم "الحقيقة"، تُعتقل الحرية وتتعطّل الديموقراطية. رئيس الجمهورية السابق، ميشال عون، كان يردد أن سقف الحرية هو الحقيقة. و"الحقيقة" له معروفة مسبقا، وهي تلك التي يحددها هو كسلطة، وليست هذه الحقيقة التي تبحث عنها الفلسفة، عبر التفكر والتساؤل بحرية حول الواقع. وقد كثُر في ايامه، الادعاء على مواطنين بسبب آرائهم، والنزعة نفسها مستمرة حتى الآن في تصاعد لافت.
- صحيح ان النظام الطائفي يضع حدودا لحرية الرأي والتعبير، لكنه كان قادرا على التعايش معها في الأيام العادية، اي بعيدا من الحرب، وكانت الديموقراطية تعمل ولو مع بعض الشوائب. اما اليوم، ومع هيمنة تنظيم ديني- عسكري- سياسي، ينطلق في عقيدته من حقائق مطلقة، غير مسموح التساؤل حولها، أصبحت الديموقراطية شبه معطّلة. فهذه التنظيمات لا تعترف اصلا بالشعب كمصدر للسلطة في الديموقراطية، بل بولاية الفقيه، التي تستخدم الديموقراطية كأداة تنفيذية لقراراتها. وهي بالتالي لا تستسيغ التنافس السياسي، في إطار الديموقراطية. تصر على التوافق بديلا من الانتخاب، وتعتبر كل تنافس سياسي تحديا لها ولهيمنتها. هذه من خصائص الفكر الشمولي. ينسحب ذلك على "اليسار " الشيوعي، الذي يطلق على المعارضة الحالية تسمية "المعارضة السلطوية"، لأنها معارضة كانت في السلطة، او لأن ما تصبو اليه هو السلطة. في هذا الموقف، فهم خاطئ للديموقراطية، حيث جميع الأحزاب، تعريفا، تريد الوصول إلى السلطة، والمعارضة لا تحمل بالضرورة معنى ايديولوجيا مناقضا للجهة التي تعارضها. فالمعارضة الى أي اتجاه انتمت، هي محرك الديموقراطية، وعقبة أمام الإستمرار في السلطة وتثبيت اقدام الاستبداد. الديموقراطية هي محرك التغيير وضمانه، ولا يمكن لأطروحات التغيير، مهما كانت جذرية، أن تلعب هذا الدور وحدها، دون الديموقراطية، كما دلّت تجارب عديدة.
 
لمناسبة الانتخابات الرئاسية، جرى الاستهزاء، من قوى شمولية و"ديموقراطية" و"يسارية" على حد سواء، بفكرة "التقاطع" بين أطراف سياسيين على ترشيح شخصية لرئاسة الجمهورية. وكأن التحالف لا يمكن أن يقوم الا على أساس عقائدي، وكأن التقاطع بين المصالح، هو شيء سيئ بحد ذاته، فيما الديموقراطية هي اعتراف مسبق بتعدد المصالح وتناقضها في الوطن الواحد من جهة، وبالتقائها على المصلحة العامة من جهة أخرى. هذه الجدلية بين تناقض المصالح وتقاطعها في الوطن الواحد، هي ما يجعل الديمقراطية آلية قادرة على تنظيم الصراعات بشكل سلمي في إطار وحدة الوطن. أليس كذلك يا سقراط؟
 
كان سقراط يهزّ برأسه وانا استرسل في الكلام. فما اصفه له عن أوضاع بلادي سنة ٢٠٢٣ بعد المسيح، متخلف كثيرا عما ارسته أثينا ٤٠٠ سنة قبل المسيح. فماذا عساه يقول لي، هو الذي كان يعتقد ربما، بحتمية تطور المجتمعات البشرية نحو الأفضل؟
لطالما ردد انه لا يعرف شيئا، وان كل ما يقوم به هو التفتيش عن المعرفة التي تنقصه. لذلك لم انتظر منه نصائح حول النظام او الدستور او الاقتصاد. شكرته على صحبته لساعتين من الزمن، وتواعدت معه على لقاء ثان، بعد عودتي من اسبرطة، حيث كان على ابني ان يتخرج في جامعتها.
 
عانقني سقراط مودعا وقال كمن لا يريد ان يغادر دون ان يقول شيئا، كتعبير عن التعاطف مع همومي: "تعرف جيدا اني معلم قبل أن أكون فيلسوفاً، وان طريقتي في التفتيش عن الحقائق، هي السؤال والجواب، فالسؤال من جديد. ما اتمناه لشعبك هو ان تكون للمعلمين كلمتهم في مجتمعهم. ليس من طريق الوعظ والتلقين، بل من خلال طرح الأسئلة وحث الطلاب والتلاميذ على التفكير الحر والنقد وإعادة النظر في المسلّمات. وربما كان من الافضل في الامتحانات، بدل طرح أسئلة على الطلاب وانتظار الاجوبة عنها، الطلب منهم طرح الأسئلة على الاجوبة التي تعوّدوا على سماعها.
 
مجتمعكم تعددي، تلتقي فيه ديانات وثقافات وقيم مختلفة. واذا كانت تجربتكم مليئة بالصدامات الدامية بين مختلف فئاته، فإن ثقافتكم المتعددة تساعد كثيرا على فهم معنى الحقائق النسبية وخطأ الحقائق المطلقة ومضارها. عليكم الافادة من تعدديتكم، للانطلاق منها الى انسانية ارقى. دور المعلمين في هذا السياق استراتيجي. تعرف أنني اتهمت بعصيان الآلهة وبإفساد الشباب، لذلك عوقبت بالموت. السلطة تخاف من كل مواطن يطرح أسئلة حول الحقائق المطلقة ومنها الحقائق التي تروّج لها الأديان.
 
الجميل عندكم، ان تعدد الأديان بحقائقها المطلقة المختلفة، يسهّل عملية اعتبارها نسبية وليس مطلقة. اي انه تكفي المقارنة بين الأديان لطرح أسئلة على كلٍ منها، من وجهة نظر كلٍ منها، وذلك بحكم اختلاف عقائدها. السلطة لا تضطهد من يطرح أسئلة على الديان، حبا بالاديان، بل دفاعا عن نفسها، اذ انها تستخدم هذه الأديان لتخويف شعبها وإخضاعه. لكني أعتقد أن اكثر ما ازعج السلطات هو تفاعلي مع الشباب ومساعدتهم على اكتساب وعي نقدي من خلال الأسئلة التي كنت اطرحها عليهم. الوعي النقدي يحول دون انقياد الشباب، اي مواطني المستقبل، وراء ديماغوجيا السلطة، ويحفّزهم على مساءلتها حول اعمالها. والمعلم هو أكثر من يحتك بالشباب في المدرسة وفي الجامعة. عليكم الاهتمام بالمعلم عندكم، وتحصينه من خلال نقاباته وروابطه، وهي اليوم للاسف بيد أحزاب السلطة. علمت أن بعض المعلمين يحاولون انشاء نقابات وروابط مستقلة، وهذا ما يجب متابعة عمله رغم كل الصعوبات.
 
حفظت في قلبي ما قاله سقراط، وذهبت مع افراد عائلتي الى إسبرطة التي كانت تُعتبر في التاريخ القديم مدينة المقاتلين، افضل المقاتلين في اليونان، الى ان جرى احتلالها ولم يبقِ المحتل فيها لا بشرا ولا حجرا على حجر. أرعبتني هذه المعلومة التاريخية، فجزء كبير من بلادي تحوّل الى ساحة لتخريج مقاتلين، افضل المقاتلين في لبنان، يحاربون غب الطلب، في بلادهم وفي بلدان مختلفة.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium