غسان صليبي
اسمها مريم،
هي فتاة صغيرة
تأتي من طرابلس
الى جونيه
من وقت لآخر،
والهدف هو التسول.
بربكم
لا تسألوني
اذا كانت مريم
لبنانية ام سورية،
او ابنة زواج مختلط،
فانا لا أعرف
ولم اسأل
ولا يهمني إن اعرف،
ترافقها امها
واخوتها الصغار،
لكنهم يبقون بعيدا
عن أماكن التسول،
ويبدو انها استراتيجيا معتمدة
من الكثير من المتسولين،
لأسباب لم أحاول أن اكتشفها،
لأنني ببساطة أحببت مريم،
والذي يحب شخصا
لا يعود يبالي بالطريقة
التي اعتمَدَها
لجذب انتباهه.
أعتقد بأن مريم
احبتني أيضاً،
أضمها وتضمّني كلما التقينا
أمام السوبرماركت او المقهى،
وبالطبع اساعدها ببعض المال
او اشتري لها سندويشا او منقوشة او ما شابه.
لمحتني مرة
وانا امشي
في ملعب فؤاد شهاب،
واخبرتها أنني امشي هناك
في الكثير من الاحيان،
فإذا بها كلما أطلت على الملعب
من الجسر المحاذي،
نادتني ملوّحة بيديها الاثنتين.
آخر مرة نادتني
وكنت قد انتهيت من المشي،
فلاقيتها خارج الملعب،
وسألتها "بماذا ناديتني يا مريم
فأنا لم اسمعك جيدا"،
فقالت "ابو علي"."
لا بأس
في ذلك،
فأنا احب اسم علي،
لكنني فضّلت أن تناديني بإسمي الشخصي،
فالمناداة بالاسم الشخصي
فيها شيء من العلاج لي ولها،
في علاقتنا الطبقية.
"إسمي غسان يا مريم
لقد نسيتِه،
ناديني
عمّو غسان".
"كم عمرك يا مريم؟"
أجابت "احدى عشر عاما،"
ابتسمت لها
واعطيتها "خارجيتها" المعهودة
كما يعطي في العادة الاب ابنته،
وسألتها "هل تذكرين بما أوصيكِ به دائما؟"،
فقالت "نعم، انتبهي على حالك"،
وأضفتُ بإلحاح
"وما تخللي حدا يؤذيكي."
وكالعادة،
هي ذهبت في اتجاه
وانا في اتجاه،
لكن هذا المرة
سرعان ما انتفضت على نفسي:
" ما هذا الهراء يا غسان:
تقول لها انتبهي على حالك
وما تخللي حدا يؤذيكي،
هل حقا تعي ما تقول،
فكيف تريد من هذه الفتاة الصغيرة
ان تنتبه على نفسها
والا تدع أحدا يؤذيها،
فهل انت قادر على تطبيق ذلك
على نفسك مثلا،
في هذه الغابة التي نعيش فيها؟
قم بشيء عملي
من أجلها
او أصمت".
صمتّ
ورحت أفكر،
كما استشرت بعض الأصدقاء
ولا زلت أبحث عن شيء عملي اقوم به،
يساعد مريم على الانتباه الى نفسها
ومنع احدهم من إيذائها.
بعض الاصدقاء،
وقد سمعت ذلك مرارا من قبل،
اعتبر أن ما اقوم به
"هو تشجيع للمتسولين
وكأنك تعطي المال لأهلها (المافيا)
وتقول لهم ان التسول مربح
فأتركوا مريم في الشارع".
هل هذا يعني
اني إن لم اعطِ مريم المال
سيقتنع أهلها أن التسوّل مضرّ
وعندها لن يتركوها في الشارع؟
لكن اصدقائي هؤلاء
لم يكتفوا بهذه النصيحة،
بل طرحوا عليّ
"الافكار العملية
التي يمكن ان نساعد فيها مريم
لتحصل على مصير أفضل:
اولاً، توعية الدولة والمجتمع باستمرار
عن مخاطر عمالة الاطفال والتسول،
ثانيا، تشجيع الجمعيات والمجتمع المدني
على متابعة هذا الملف للضغط على الدولة
لإيجاد مدارس ومراكز حماية تأهيلية وقتية
تدعمهم لإيجاد حلول مستدامة
تمكن هؤلاء من ايجاد بدائل للعيش بكرامة."
الفتاة عمرها
احدى عشر سنة
يا جماعة الخير،
وهي تتسول على الطرقات،
فإما سيزوّجونها
زواجاً مبكراً
فتُغتَصب شرعياً،
وإما انها ستُغتصب
بطريقة غير شرعية،
ما عدا المصائب الأخرى
التي قد تلحق بها،
وهي بالتأكيد
لا تستطيع انتظار
تحقيق هذه الافكار الجميلة،
في وقت تتعرض فيه الدولة
التي نعوّل على مساعدتها،
الى الاغتصاب،
بطريقة شرعية وغير شرعية
على حد سواء.
"الوقت يداهمك
تماما كما يداهم مريم
يا غسان،
فتحرك"،
هذا هي الفكرة الوحيدة
التي تسيطر على عقلي،
والذي لا يبالي
على ما يبدو
بكل الاعتبارات الأخرى.
اعرف اني أضع نفسي
في مأزق انساني صعب،
فهكذا مسؤولية
تتولاها عادة الدول،
لعقم الحلول الفردية أو المجتزأة،
واعرف ان مواطنين لبنانيين آخرين
يختبرون ما اختبرته
ويشعرون مثلي بالمسؤولية الانسانية،
أمام هذا العدد الكبير
من الفقراء والبائسين في بلادنا،
المتسولين وغير المتسولين،
الذين بتنا نصادفهم
ونحن نأكل ونشرب ونتنقل.
واعرف
أن أي مبادرة مني
ستصطدم بعقبات كثيرة
وأولها موقف اهل مريم.
لكني اعرف أيضاً،
ان مبادرة مني
قد تغيّر مساراً حياتياً كاملاً
رسمه المجتمع بظلم،
لصديقتي الصغيرة مريم.
فهل من افكار عملية
يا أصدقاء غسان،
حتى يستطيع صديقكم
مساعدة مريم،
لعلّها لا تلقى مصيرها المحتوم؟