النهار

الجمهوريّة أم الملكيّة... أيّهما أصلح للعرب؟
د. خالد محمد باطرفي
المصدر: "النهار"
الجمهوريّة أم الملكيّة... أيّهما أصلح للعرب؟
ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. (الصورة عن "رويترز").
A+   A-

يرى ابن خلدون في مقدمته أن الامبراطوريات تمر بمراحل، مرحلة البناء التي يقودها الجيل المؤسّس، وهي الأعظم. ثم مرحلة الحفاظ على الكيان بيد الجيل الثاني الذي لحق بالأول وتعلّم منه وأدرك تضحياته. ثم تأتي أجيال انقطعت الصلة بينها وبين مرحلة التأسيس واعتادت على الرفاه والتميّز، فأصيبت بالوهن والتهاون وعلى يدها تنهار الكيانات وتتفكك الدول وتسلم وتستسلم لإمبراطورية جديدة يقودها جيل مؤسّس جديد.

ويقرّر أن كل دولة تنتقل بين خمسة أطوار هي: الظفر، والانفراد بالمجد، ثم الفراغ والدعة، ثم طور القنوع والمسالمة، ثم الإسراف والتبذير.

 

شواهد التاريخ الحديث

وتكرّر الأمر من بعد ابن خلدون، فانهارت الامبراطورية القيصرية في روسيا، وخلفها الاتحاد السوفياتي، ثم ضعف وتفكك، وقامت على أنقاضه روسيا الاتحادية. وذهبت الإمبراطورية الصينية الى نفس الطريق، وقامت جمهورية الصين الشعبية.

وورثت الولايات المتحدة الأميركية المملكة المتحدة، وسقطت إمبراطوريات أوروبا واحدة بعد الأخرى، فخسرت مستعمراتها وتفككت ولاياتها وتحولت من نظام الى آخر، فمن قيصرية ألمانيا الى نازيتها الى جمهوريتها، ومن إمبراطورية الصرب الى جمهورية يوغسلافيا، فجمهورية صربيا. ومن مملكة فرنسا الى إمبراطورية نابليون فمملكة تشارلز الرابع، فجمهورية بعد أخرى حتى بلغنا الجمهورية الثالثة. وهكذا كانت حال إمبراطورية الإنكا في جنوب أميركا، ومملكة مالي الأسطورية في أفريقيا، التي كانت منجم ذهب العالم، ومنارة علوم ومعارف، وحال إمبراطورية الحبشة، ومملكة مصر والسودان، وشاهنشاهية إيران، وإمبراطورية الزولو.

 

ثورات وانقلابات

وفي عالمنا العربي، خرجنا من تحت عباءة العديد من الإمبراطوريات الأوروبية والشرقية، وآخرها العثمانية والبريطانية والفرنسية والإيطالية والإسبانية. وقامت كيانات وطنية ملكية وجمهورية تحررت من الاستعمار واستقلّت (باستثناء السعودية التي وُلدت مستقلة منذ دولتها الأولى عام 1727). ثم مضت على بعض الدول العربية سنة النظرية الخلدونية، فانقلب العراق على آخر ملوكه، فيصل الثاني، ومصر على آخر ملوكها فاروق الأول، وسوريا على أول ملوكها فيصل الأول، وليبيا على آخر ملوك السنوسية، واليمن على آخر آئمة الزيدية.

وصمدت ملكيات الجزيرة العربية والأردن والمغرب، رغم مؤامرات التغيير التي قادها الغرب في البلدان الأخرى، ونجحت في مواكبة العصر وبناء أجيال أكثر تعلماً وتدريباً وجهوزية لمواصلة البناء والتنمية. فجددت بذلك نفسها، وأعادت مرحلة التأسيس الأولى على وقع الزمن الجديد.

 

الاستعمار الجديد

وفي المقابل، تسارعت حركة التغيير في الجمهوريات الجديدة في مشرق الأمة ومغربها، فتقاتل رفاق السلاح، وانقلبت الأجيال بعضها على بعض، وتصارعت على السلطة والرئاسة، وتمزقت دول على أسس طائفية أو عرقية أو قبلية. كما توزعت ولاءاتها بين مهيمن أجنبي وآخر. وعادت إليها عفاريت الاستعمار، وإن كان القديم أرحم. فالأوروبيون توزعوا تركة الرجل المريض في اسطنبول بالتراضي بينهم، وحافظوا على وحدة البلدان التي حكموها، وعملوا على الارتقاء بها على مدارج العلم والمدنية والحرية. أما مستعمر اليوم، فلا همّ له إلا امتصاص الموارد الطبيعية، وتسليح الطوائف الولائية، وتتريس القواعد العسكرية. لا إنفاق، ولا تطوير، ولا إنماء.

وسلمت بلدان أخرى من حكم الأجنبي، وإن وقع بعضها في حكم العسكر. فالانقلابات التي جاءت بالضبّاط لتغيير أنظمة اتهمت بالفساد أبقتهم جيلاً بعد جيل على رأس السلطة. وبدلاً من أنظمة متوارثة أو برلمانية، تسلطت أنظمة بوليسية تكرّس الموارد لحماية المصالح الذاتية، وتشعل الصراعات الداخلية والخارجية لتبرير الفشل التنموي، وعدم توفير الاحتياجات اليومية، وتجاوزات الحقوق الإنسانية. تتاجر بالشعارات العقائدية والقومية، وتهمل المصالح الوطنية. فبقي من بقي من الشعوب مقرباً مستفيداً، أو مبعداً معدماً، وهاجرت ملايين العقول والمواهب الى مشارق الدنيا ومغاربها طلباً للرزق والعلم، للأمن والاستقرار، للحياة والحرية.

 

ما يصلح للعرب

ويبقى السؤال الأزلي، ما النظام الأفضل والأنسب للأمة العربية؟ الجمهورية الديموقراطية، العقائدية، العسكرية، أم الملكية الوراثية؟

يرى ابن خلدون أن العرب أصحاب همة وشكيمة يتنازعون الرئاسة والصدارة، لا يحكمهم إلا لواء الدين أو الملك. ويقول فيهم "فهم متنافسون في الرئاسة وقلّ أن يسلّم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أوأخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل وعلى كره". وعليه يقرر "إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوّة أو ولاية". أو كما يقول المثل البدوي: لا يحكم العرب إلا الجيش أو قريش (حيث ترمز القبيلة هنا الى الولاية المتوراثة).

وهذا الأمر ليس خاصاً بالعرب، في تقديري، فالأفارقة، مثلاً، لم يستقر حكمهم إلا تحت راية أسرة حاكمة، سواء كانت قبيلة أو إمارة أو مملكة. والفرس، عبر تاريخهم الطويل، لم تجمعهم إلا راية كسرى أو أمير المؤمنين. وكذا كانت حال الصين، فبعد الإمبراطورية المؤلهة، حكمتهم العقيدة الماركسية.

 

امتحان مؤامرة "الربيع"

والقبيلة العربية لا تزال تحكم في إطارها المحدود، وهي الأكثر استقراراً واستمرارية وتماسكاً من أنظمة الحكم الجمهورية. والأسر الحاكمة في الخليج والأردن والمغرب تتوارث الإمارة جيلاً بعد جيل، وفي حالة السعودية وعُمان، على امتداد بلغ مئات السنين، ولا تزال.

وجاءت ثورات الربيع العربي لتمتحن متانة هيكل الحكم في البلدان التي عصفت بها. فسقطت الكيانات التي ضاعت هويتها وتركيبتها بين القبيلة والحكم الوراثي والجمهوري، كاليمن وليبيا. وصمدت تلك التي وفقت بين حكم العسكر والحكم المدني، كسوريا ومصر وتونس والسودان. وضاعت تلك التي هيمن عليها العقائديون والولائيون للعجم، وغلبت سلطة الميليشيات على سلطة الجيش وقوى الأمن، كما هي حال العراق ولبنان.

 

الجمهوريات الهجينة

المشكلة في الجمهوريات العربية أنها أقرب الى جمهوملكية أو جمهوعسكرية منها الى الى جمهورية بالمعايير الدولية، وأبعد عن مبدأ "حكم الشعب للشعب". فكم رأينا أن الحنين الى الحكم الوراثي دفع رؤساء وصلوا الى الحكم على دبابة الثورة ضد الملكية والقبيلة الى الاستعانة بالعائلة والعشيرة والعسكر للتمكن من العرش، وضمان الحكم الأبدي، ثم العمل على توريثه للأبناء. حدث هذا في عراق صدام حسين، وسوريا حافظ الأسد، ومصر حسني مبارك، وليبيا معمر القذافي، ويمن علي عبد الله صالح.

أما الأحزاب والبرلمانات والمحاكم الدستورية فقد جيّرت لخدمة الحاكم، غطاءً لشرعيته، وتثبيتاً لدولته. وهكذا نجح الرؤساء الخالدون في تجديد دورة حكمهم عشرات السنين، وتمكين أقربائهم وحلفائهم ومواليهم على مفاصل السلطة، وإن لم ينجح في توريث الأبناء إلا الأسد.

 

جمهورية أم ملكية؟

أما العقيدة، ديناً كانت أو قومية أو بعثية أو اشتراكية أممية، فقد استعانت بها الجمهوريات لفرض سلطة الحزب الواحد، وتصنيف المنافسين وفرز الخصوم وضمان نتائج الانتخابات للمرشح الأوحد.

وبالنتيجة، لم ينجح أحد. توقفت ساعة الزمن عند لحظة الانقلاب العسكري، وتعطلت مسيرة التنمية، وتحولت بلدان كانت غنية وقوية وتقدمية الى منتج للقلاقل والفتن، ومصدّر للاجئين والمهجرين، ومصنّع للحشيش والكبتاغون، تعيش على المساعدات والإتاوات، وتحويلات المغتربين وعرق الباقين.

إذن، ما النظام الأصلح للعرب، الملكية أم الجمهورية؟ شهادتي مجروحة، فأنا ملكي حتى النخاع، ولذا أحيل السؤال الى القارئ الفطن.

* أستاذ بجامعة الفيصل

@kbatarfi

 

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium