الحرية الفردية هي حرية قول وإبداء وجهات النظر الخاصة والآراء الشخصية واختيار مكان العيش والعمل وما شابه ذلك، وهي مبدأ أساسي في المجتمع البشري، ويجب تحقيقها تاريخياً والدفاع عنها عن طريق إعطائها الأولوية من قبل المهتمين بالشؤون العامة في المجتمع.
حرية التعدّي!
تنتهي حرية المرء عندما تبدأ حرية الآخرين. أي أن تجاوزك حرية غيرك اعتداء يعادل تجاوزه على حريتك. ومثال ذلك على المستوى الشخصي، إن من حقك أن تسمع الموسيقى التي تحبّ، ولكنها عندما تتحول الى ضحيج يزعج جارك، ويقضّ منامه، فمن حقه أن يشكوك إلى الشرطة لتمنعك وتقتصّ منك.
وعلى مستوى أعلى وأخطر، فإنك عندما تشيع السوء عن جارك، وتحرّض الناس عليه، فمن حقه أن يقاضيك، خاصة إذا أدى هذا التحريض إلى إلحاق الأذى به والتعدي عليه.
وفي ظروف تلتبس فيها الحقائق، ويشيع فيها الخوف والتوجّس من الآخر المختلف جنساً، أو فكراً، أو ديناً، فإن النفخ في نيران الكراهية والدعوة إلى المعاداة والتعبير عن الاحتقار له، بما يؤدي إلى عزله، وحرمانه حقوقه، والتعدي عليه، جريمة ضد الإنسانية.
دروس التاريخ
العجيب أن التاريخ مليء بالدروس والعبر في هذا الشأن، ولكن (ألا ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار) كما قال الإمام علي بن أبي طالب. ففي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي قادت النازية حملة تحريض وكراهية ضد فئات من البشر، مثل اليهود والماركسيين والمعوّقين، أسفرت عن قتل ملايين منهم في محارق الغاز وحقول القتل الجماعي.
وأسفرت "فتنة ونستون تشرشل" التي أحدثها المستعمر البريطاني بين المسلمين والهندوس بتقسيم الهند، قبل الاستقلال، إلى قتل واسع على الهوية، وجرائم كراهية لا تزال مستعرة إلى اليوم. وفي التسعينيات استخدم دعاة الفتنة الراديو لتشجيع أغلبية الهوتو على قتل أقلية التوتسي، على أساس عرقي، وخلفية تفرقة خلقها الاستعمار البلجيكي، فنحر قرابة المليون رجل وامرأة وطفل خلال أشهر.
لقد قاد الخطاب الديني المتطرف إلى مجازر تطهير عرقي وديني عبر العصور، فملايين هلكوا في الحروب الدينية الأوروبية، والحملات الصليبية، واضطهاد العبيد والملوّنين، حيث تم قتل عشرات الملايين من السكان الأصليين في القارتين الأميركيتين وأوستراليا ونيوزيلندا وإفريقيا وآسيا.
حوار الحضارات
وبعد أحداث أيلول قادت السعودية مبادرة عالمية للحوار بين الأديان والحضارات لتفادى تصادم جديد، ولمواجهة الخطاب العدائي والاستعدائي من خلال إشاعة روح التسامح الديني والفكري والإنساني.
وتبنت الأمم المتحدة المبادرة في نيويورك ثم مدريد، وتكفّلت الرياض بإقامة معهد دائم لتبنّي المبادرة في فيينا. وتبنّت المملكة منذ ذلك الحين العديد من المؤتمرات وأنشأت مركز الاعتدال الدولي في الرياض لمواجهة الخطاب المتطرّف في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والمنصات العامة.
مبادرات الرياض
في هذا الاتجاه تأتي دعوة الرياض قبل أيام للجنة حقوق الإنسان في اجتماعها الأخير لتدارس ظاهرة حرق المصاحف وخطاب الإسلامفوبيا المعادي للمسلمين تحت حماية ورعاية الدساتير والمحاكم وجهات إنفاذ القانون الأوروبية، ومطالبتها بسن قوانين تحمي أتباع الأديان من خطاب الكراهية.
كما سبق ذلك دعوتها لانعقاد جلسة طارئة لمنظمة التعاون الإسلامي لاتخاذ قرارات بشأن هذه الظواهر المقلقة، والتي ستقود إلى ردود فعل لأكثر من 1800 مليون مسلم يصطلون بنيران الكراهية والاحتقار الدولي تجاههم، ما يجعلهم أكثر تقبلاً للخطاب المضاد من جماعات التطرف الديني.
يقظة البشرية
على العالم أن يستيقظ اليوم على استفزاز الجماعات الدينية واليسارية والليبرالية المستمر للمسلمين وغيرهم من أتباع الأديان والمحافظين في العالم. فكونك حراً في اتّباع الدين أو الفكر أو الميول الجنسية، لا يعني حقك في التعدّي على من يخالفك الرأي والاتجاه والإيمان.
والاضطهاد الذي تدّعيه، والمظلومية التي تشكو منها، باتت من الماضي، وليس من حقك اليوم وقد استعدت حقك في الاختيار والتعبير أن تفرض على الآخرين معتقداتك وخياراتك. ولا أن تحرمهم حريتهم وحقوقهم هم أيضاً، إن لم توافق هواك.
المعاييرالسويدية
ودول كالسويد تدّعي أن خطاب الكراهية حق رأي وتعبير، تعاقب بالسجن والقتل المعنوي والنفي والإقصاء من ينكر الهولوكوست أو يحرق علم المثليين.
وكانت تجادل بأن مظاهرات وأنشطة حزب العمال الكردستاني المصنّف إرهابياً في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة هي من حقوق التعبير، محمية بالدستور. ولكنها عدّلت دستورها وأنظمتها ومنعت كل ذلك وشددت ووسعت أنظمة مكافحة الإرهاب لتشمل الحزب الكردي مقابل الحصول على موافقة تركيا على عضويتها في الناتو.
النفاق الأوروبي لا حدود له، ولكنه بلغ اليوم حداً من الوقاحة والبداحة غير مسبوق. فالتناقض بين القوانين وازدواجية المعايير واستهداف دين بذاته وجماعة بذاتها، في الوقت الذي تدعي أوروبا المثالية وتحاضر الدول والشعوب الأخرى في حقوق الإنسان والتسامح والحريات والديمقراطية، تمارس بمنتهى التعالي والغطرسة أعلى درجات التوحش الفكري والتعدي الديني والتحريض العقدي ضد من تحاضر فيهم وتؤنبهم وتدعوهم إلى قيمها.
الردّ الأممي
أرى أنه آن الأوان لسن قوانين أممية ضد الكراهية وتفعيل القوانين القائمة لتشمل الرموز الإسلامية والمسلمين. وأن تتخذ الدول الإسلامية السبع والخمسين وحلفاؤها كالصين وروسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا قرارات حازمة وجماعية، دبلوماسية وتجارية واقتصادية، ضد الدول التي تخالف هذه القوانين.
وأن تقوم منظمات المجتمع المدني والإعلام بدورها في توعية الشعوب بحقها في الاعتراض السلمي، وتقود حملات المقاطعة التجارية لمنتجات البلدان التي تصر على مواقفها بعذر الحريات الزائفة، والدساتير العنصرية، والقوانين الظالمة. فكما نجحت دولة واحدة، كتركيا، بتغيير هذه الأنظمة خلال أيام، تخيّل ما تستطيع عشرات الدول وقرابة المليارين مستهلك أن يحققوه.
بقي أن أقول للمغتربين والمخدوعين بالحضارة الأوروبية وقيَم الرجل الأبيض، آن أوان اليقظة والوعي، فأوروبا استعمرت العالم واستعبدت شعوبه ونهبت موارده بدعوى الإرتقاء به وإنقاذ روحه وإخراجه من ظلمات الجهل ومستنقعات الفقر والمرض إلى نور العلم والإيمان وجنات النعيم. وآخر حملاتهم كانت في أفغانستان والعراق والسودان، فأين هم اليوم وأين هي تلك الشعوب والبلدان؟
* أستاذ في جامعة الفيصل