قال سقراط: اعرف نفسك. وقال عمر بن الخطاب: اعرف عدوك. ويمكن أن نضيف: اعرف خصمك.
يهمّني أن أعرف نصرالله. هو ليس عدوي، بل هو ابن بلدي، لكنّه خصمي في السياسة، ذلك أنّه يحكمني بالقوة، ومن دون إرادتي. وأريد أن أعرفه، لأعرف كيف أواجه خصمي.
ليس المقصود هنا محاولة معرفة تركيبة نصرالله النفسيّة، بل معرفة فكره، وتحديداً نظرته إلى السلطة. هذه السلطة التي أشتكي منها، لأنها تُفرَض عليّ وعلى القسم الأكبر من شعبي، بقوة السلاح أو من خلال التهديد باستخدامه.
نفى نصرالله في حديث له مطالبة "حزب الله" بأيّ ضمانات رسمية أو مكتوبة أو دستورية، "على الرغم من أهميتها والاحترام لها"، لكنّه اعتبر أن "الضمان الأساسي الذي نطالب به هو شخص الرئيس، فلان الفلاني، الذي نعرف عقله ووطنيّته والتزامه. وهو الضمان. ونحن بلد شرقيّ، وفي الشرق الأمور هكذا تكون. الشخص أساسيّ بالنسبة إلينا، ونحن لا نطلب شيئاً آخر. مسألتنا مسألة انتخاب رئيس، ولسنا نحن من عرضنا تسوية رئيس للجمهورية ورئيس للحكومة، بل عرضت علينا".
أضاف: "فرنجية هو مرشح طبيعي، وهو أحد المرشحين الأربعة الذين تمّ الاتفاق عليهم في بكركي، وهو من أقطاب الموارنة في البلد وليس شخصية طارئة. كلّ ما يعنينا نحن، وكثيرون غيرنا يؤمنون بأنه رجل شجاع وفيّ لا يغدر، ولديه مواصفات أخرى تؤهّله ليكون رئيساً للجمهورية".
إذن، الشخص هو الضمان وليس الدستور أو القانون. قبل أن نُسرِع في الاستنتاجات حول نظرة نصرالله إلى السلطة، فلنتأمل ما قاله أمام المبلّغين العاشورائيين: ""حزب الله" لا يُناسبه الدخول في تشكيلات الدولة رسمياً كما الحشد الشعبي، لأنّه يستفيد من هامش الفرق بين الدولة ومؤسّساتها وبين المقاومة". فهل يعني ذلك أن موقف نصرالله براغماتيّ وليس مبدئياً، وبالتالي يجب التريّث في استنتاج مفهومه للسلطة؟
لم يعد خافياً أنّ نصرالله براغماتي في السياسة، بالرغم من تكراره في خطبه أن مواقفه نابعة من اقتناعاته "الدينية والأخلاقية والوطنية". ففي موقفه أعلاه من ضرورة "الدخول في تشكيلات الدولة رسمياً كما الحشد الشعبي"، خلفيّة بحت نفعيّة. فبالنسبة إليه، "حزب الله" لا يُناسبه هذا "الدخول"، لأنّه "يستفيد" من هامش الفرق بين الدولة ومؤسّساتها وبين المقاومة. ما يهمّه هو سلطة المقاومة وليس سلطة الدولة، وكيفية الإفادة من الهامش بين السلطتين؛ أي كلّما كان هذا الهامش كبيراً، ولصالح المقاومة، كانت الإفادة أكبر؛ كلّما قويت المقاومة، وكلّما ضعفت الدولة، وكلّما اتّسع الهامش، استفادت المقاومة. نظرة نصرالله إلى سلطة الدولة تخضع لهذه المقاربة ولهذا المنطق.
يمكن فهم اعتماد نصرالله على ضمان شخص رئيس الجمهورية، وليس على تعديل الدستور - ولو لصالحه - في سياق هذا المنطق؛ فهو يريد رئيساً "شجاعاً"، أي يقف بوجه خصومه في الدولة، "وفيّ"، أي وفيّ لـ"حزب الله" الذي أتى به رئيساً، و"لا يغدر"، أي لا يطعن المقاومة في الظهر كما يردّد "حزب الله". كلّ الصفات المطلوبة لها علاقة بدعم المقاومة، وليس بممارسة السلطة في الدولة اللبنانية؛ لا بل مطلوب أن يجيّر الرئيس سلطة الدولة لصالح المقاومة، تماماً كما فعل لحود وعون، اللذان مدحهما نصرالله في خطبة سابقة، متمنّياً أن يكون الرئيس الجديد على شاكلتهما.
عقائدياً، ليس مستغرباً أن يضع نصرالله الشخص قبل النظام، فهو يتبع عقيدة الوليّ الفقيه، الذي يُعتبر مصدر السّلطة، ويتوقّف عليه كشخص، اتّخاذ القرارات الأساسية في الدولة، فيما على النظام أن يوفّر آليّات تطبيقها.
بالطبع، لا ينظر نصرالله إلى شخص رئيس الجمهورية كما ينظر إلى شخص الفقيه الوليّ؛ فالأول يُريده تابعاً له، في حين يقرّ بأنّه يتبع الوليّ الفقيه الإيرانيّ. وعلى الأرجح، يُريد نصرالله من سلطة رئيس الجمهورية في لبنان أن تندرج في إطار علاقة ثلاثيّة: رئيس الجمهورية يتبع له، وهو يتبع الولي الفقيه الإيراني. يبقى أن "الشخص" يلعب بفهمه للسلطة، الدور الأساسي، بالمقارنة مع الدستور والقوانين.
يُحيلنا ذلك على التذكير بالأنواع الثلاثة للسلطة بحسب عالم الاجتماع ماكس فيبر: السلطة الكاريزمية، السلطة التقليدية، والسلطة العقلانية-القانونية. "السلطة العقلانية هي التي تستمدّ شرعيتها من القانون، وفي الدول الحديثة الديموقراطية، يمارسونها وفقاً للقانون. السلطة الكاريزمية هي السلطة التي يقودها شخص غير عادي "خارق" يملك صفات كاريزمية حقيقية أو وهمية. أما السلطة التقليدية فتعتمد على الإيمان بالتقاليد المتوارثة من الماضي، وقد مرّت بمراحل: في البداية سادت فكرة أن الله هو مصدر السلطة، ثم تحولت إلى سلطة العائلة الواحدة الحاكمة، ثم رئيس القبيلة، والملك أو الأمير".
السلطة التي يبتغيها نصرالله هي مزيج من السلطة الكاريزمية (ما يمثله هو والوليّ الفقيه مثلاً)، والسلطة التقليدية (ما يمثله فرنجية مثلاً): "نحن بلد شرقيّ، وفي الشرق الأمور هكذا تكون"؛ يجزم نصرالله من دون حاجة إلى أيّ نقاش، ومن دون اعتبار أنّ الأنظمة تتغيّر، حتّى في الشرق. لم نعد نتكلّم هنا فقط على "العادات والتقاليد الشرقية" التي تحدّ من قدرة مجتمعاتنا على إقرار قوانين مدنيّة للأحوال الشخصية، أو على معاقبة جرائم الشرف، أو على دعم وتطوير حقوق النساء، بل أصبحنا نشكّك، متحجّجين بالصفة "الشرقيّة" هذه، في قدرتنا أو حتى أحقّيتنا، في بناء سلطة تقوم على حكم القانون وليس على مزاجية الأشخاص.
مشكلة "حزب الله" ليست فقط في سلاحه بل في عقيدته، التي لا تعترف بالسلطة "العقلانية-القانونية" التي تقوم عليها الدول الحديثة. لا عجب في ذلك، فأحد شروط ممارسة هذه السلطة تحييد السلاح عن العملية السياسية، ووضعه جانباً. واستطراداً، لا عجب في أن يُطرح الحوار بديلاً من الانتخابات، أو أن تهيمن السلطة السياسية علناً على السلطة القضائية، وكأن لا فصل بين السلطات. فالنظام الديموقراطي في مجمله، لا يدخل في عقيدة "حزب الله".
عندما تتعرّف نظرة نصرالله و"حزب الله" إلى السلطة، بغية مواجهة الهيمنة على البلاد، عليك أن تفهم أنك لا تواجه فقط عنف السلاح، بل عقيدة دينية-سياسية-ثقافية، تحُوْل دون بناء دولة القانون، التي تطمح إليها القوى المعارضة.