أحمد عثمان
تستفزني في موسم الصيف ظاهرة انتشار الپوستات وفيها لقطات من حفلات الموسم وسهراته، مرفقةً إياها بنقد لنا نحن اللبنانيين/ات وكيف أننا نشتكي من الأزمة فيما أننا نعيش بالطول والعرض، أو كيف أننا نعيش بالطول والعرض فيما كان أجدى لنا أن نصب طاقتنا هذه في التظاهر وتغيير واقعنا المرير.
تستفزني هذه الظاهرة، لأنني لست من هواة جَلد الذات.
خلال الثورة، أتحفنا الجمهور المعادي للثورة بنظرية أننا لا نثور "كما ينبغي"، أي أن ثورتنا أكثر سلميةً مما ينبغي، أو أكثر عنفيةً مما ينبغي، أو غير ممولة كما ينبغي.
أجدنا اليوم أمام هذه الـ"كما ينبغي" إياها، تتفرس فينا بحبها الاشتراطي وبعيونها المئة وألسنتها اللامتناهية.
أن نحيا "كما ينبغي"، هو أن نوقف جميع مظاهر الحياة، أو أقله أن نقتصد في مظاهر الحياة، إلى أن يكون آخر قرش منهوب قد عاد إلى الخزينة اللبنانية، وإلى أن تكون دولتنا الكريمة قد نظفت من الأشرار، وأقرت جميع الإصلاحات المالية المطلوبة، وردّت آخر قرش إلى صندوق النقد الدولي.
أن نحيا "كما ينبغي"، هو أن نوفر طاقتنا هذه التي نضعها حاليًا في السهر، لكي نتظاهر ليلًا نهارًا أمام مقار المؤسسات الدستورية الثلاث، إلى إن يحق الحق وتعود الليرة إلى رشدها والخزينة إلى فائضها، وما عليكم بيقين أن عيونكم/ن سوف تُفقأ، وأنفاسكم/ن سوف يقطعها الغاز المسيل للدموع، وأن دولتكم سوف تسجنكم بتهمة العمالة للسفارات، ولن تفرج عنكم قبل أن تدفعوا لها ثمن الرصاص الحي الذي أطلقته عليكم/ن، وأن هذا كله لن يعني شيئا، لأن المنظومة السياسية بعد ٢٠١٩ أصبحت على استشراس الهر العالق في الزاوية، أي أن تظاهركم/ن هذا سوف يكون مجديًا، تمامًا مثل نظيره في ڤنزويلا ٢٠١٧ وإيران ٢٠٢٢.
نحن الشعب اللبناني، شعبٌ لعق جراحه بنفسه على مدى أربع سنين طوال. نحن لسنا أذكى الشعوب ولا أجملها ولا أكثرها رشداً ولا أعرقها ولا أنبلها، لكنني أستطيع أن أقول بكامل الهدوء إننا شعبٌ يعمل في النهار وإن هذا يكفي. ما أقصد أن أقول هو أننا "عم منشوف شغلنا"، وإن كان حكامنا غير مهتمين بأن "يشوفوا شغلهم"، فليست هذه بمسؤوليتنا. أمضينا ستة أشهر من الحراك في الشوارع والساحات، محاولين أن ندفع بهم/ن نحو القيام بواجباتهم، فلم يتجاوبوا. عدنا إلى أشغالنا ولَعَقنا جراحنا وها نحن نعود إلى سهرنا المعتاد، وليس السهر عيبًا.
هل هذه العودة إلى العادية هي إشهار استسلام؟ بالنسبة الى أغلبنا، نعم هي كذلك، والإستسلام مشروعٌ لمَن حارب بكل ما أوتي. بالنسبة إليّ، أنا الذي أنتمي الى هذه الحشود العاملة نهارًا والراقصة ليلًا، لا تحلو هذه العودة إلى العادية من الاستسلام، لكنها تستند أيضًا إلى اقتناع راسخ بأن الثورة ليست محصورة في التظاهر في الشارع، وإنما هي مسار تاريخي انطلق بلا هوادة، وأن بعض الحكمة هي أن نثق باستمرارية هذه المفاعيل لسنوات وعقود ما بعد ٢٠١٩.
ما أريد أن أشدد عليه، هو أنني أحترم السهر والسهارى، حتى المبتذل منهم/ن، لأنني أعرف أنه في ظروفٍ أخرى، الكثير من هؤلاء إياهم كان وقود الثورة، وكثيرٌ منهم/ن أعطى أصواته لليستات الثورة خلال الإنتخابات الپرلمانية الأخيرة. بمعنى آخر، من السطحي أن نغتر بأشكالهم الجميلة لنصل إلى خلاصة أن سهارى لبنان هم أشخاص على طلاق مع الحاضر أو الأزمة أو القضية - أي قضية.
أعرف جيداً أننا شبعنا الحديث عن فكرة "الحب اللبناني للحياة"، لكن لا يكتمل تقييم صيف لبنان ٢٠٢٣ إلا بوضعه في السياق الأكبر لماهية لبنان، وهو مدى عضوية حب الحياة - بل الاستشراس على الحياة - للماهية اللبنانية فعلًا. يكفي أن نفكر كم أنه مستحيل أن نتصورنا بدونه، نحن الذين عشنا الدولتشي ڤيتا والحرب الأهلية وأمنيزيا التسعينات وثورة ٢٠٠٥ و٢٠١٩ راقصين، نعيش الانهيار أيضًا راقصين.
الأنكى أن رقصنا هذا كله لم يمنعنا من ممارسة حداثتنا باختلالتها وإنجازاتها، بل كان شرطًا طبيعيًا لها، لأنه حيث لا تنبت الأعشاب الضارة، لا تنبت الزهور؛ وهنا لا يسعني إلا أن أستذكر الراحل سمير قصير عندما كتب، "بيروت كانت، وتبقى، مكانًا حقيقيًا للغاية، يفشل لهوها وحبها للاستعراض والإبهار في التغطية على جديتها الداخلية".
لربما إذا ما اتحدنا في حبنا غير المشروط لهذا الوطن، يكون في ذلك بداية سن الرشد لنا جميعًا، وإلى أن يكون ذلك، فما لنا إلا أن نكمل مسيرتنا الطويلة في غياهب الانهيار راقصين ساهرين.