النهار

أبعد وأخطر وأشدّ ألماً من قضيّة اغتصاب الطفلة لين طالب ومقتلها
غسان صليبي
المصدر: "النهار"
أبعد وأخطر وأشدّ ألماً من قضيّة اغتصاب الطفلة لين طالب ومقتلها
الطفلة لين طالب.
A+   A-
توفيت الطفلة لين طالب، ابنة الخمس سنوات، متأثّرة بنزيف حادّ، نتج عن تعرّضها لاعتداءات جنسيّة متكرّرة.

كانت لين قُبيل الوفاة في منزل والدتها المنفصلة عن والدها،
وهي في العادة تتنقّل بين بيت أهل والدتها في المنية، وبيت عائلة والدها في عكّار.

بعد أن نقلتها أمّها الى المستشفى لارتفاع في حرارتها، رفضت أن تبقيها هناك رغم طلب الطبيب. فماتت الطفلة بعد ذلك.

بعد تحقيقات أوّليّة، ادّعت المحامية العامة الاستئنافيّة في الشمال القاضية ماتيلدا توما على جدّ الطفلة الضحيّة لين طالب لأمّها، في ملفّ الاعتداء عليها والتسبّب بالإيذاء القصديّ، كما ادّعت على والدتها بقصد التستُّر على الجريمة. وأحالت المحامية أوراق الادّعاء وملفّ التحقيق الأوّليّ على قاضية التحقيق الأوّل في الشمال سمرندا نصّار.

عندما تحصل جرائم ضدّ النساء أو الأطفال وأحيانا ضدّ الرجال، يرفض الرأي العام ومحامو الادّعاء والجمعيّات الحقوقيّة، فرضيّة أنّ القاتل أو المغتصب، مريضٌ نفسيٌّ.

دوافع الرفض سببها الافتراض أنّ القاضي ومحامي الدفاع يريدون التخفيف من مسؤولية المجرم وتالياً من صرامة العقوبة، فيلجؤون إلى هذه الحجّة، على اعتبار أنّ المريض النفسيّ، يتصرّف وكأنّه مسلوب الإرادة.

هذا صحيح، لكن ماذا لو كان صحيحاً أيضاً، أنّ القاتل وجميع القتلة، والمغتصب وجميع المغتصبين، يعانون من مرض نفسيّ- اجتماعيّ؟

ماذا لو كان القتل والاغتصاب في المجتمع مرضاً نفسيّاً- اجتماعيّاً؟

يسمّي القانون القتل او الاغتصاب جرائمَ، ويُعتبران من المشكلات أو الأمراض الاجتماعيّة الكبيرة. أفضّل شخصيّاً تعبير الأمراض النفسيّة- الاجتماعيّة، وذلك لسببين مترابطين: أوّلاً لأنّ العوامل الطاغية في تفشّي المرض، هي في اعتقادي اجتماعيّة وليست نفسيّة أو بيولوجيّة، وثانياً لأنّ هذا المرض يمسّ في العمق نفسيّة البشر وسلوكهم.

لا يجرؤ المجتمع على القبول بهذه الفرضيّة التي تضعه في موقع الاتّهام، فعندها يمكن القول إنّ هذا المجتمع بنظامه السياسيّ والاقتصاديّ، بثقافته وعاداته وتقاليده وتربيته الدينية، يولّد أمراضاً نفسية- اجتماعية، تجعل من البشر قتلة ومغتصبين.

لا يكتفي هذا المجتمع بالتنكّر لمسؤوليّاته، بل يجعل المتضرّرين أنفسهم، يتستّرون على الجرائم، كما فعلت الأمّ على ما يبدو، باسم الشرف والدين والصيت الحسن.

إن لم نتقبّل فكرة أن يكون القتل والاغتصاب مرضاً نفسياً- اجتماعياً، علينا أن نقرّ بأنّ الإنسان "الطبيعي"، الذي نفترض أنّه غير مريض نفسيّاً، يمكنه أن يقتل أو أن يغتصب.

لا مشكلة في ذلك، إذا كانت لدينا نظرة سيئة عن طبيعتنا البشرية، وإذا كنّا نتشارك مع بعض علماء النفس اعتقادهم أنّ الشرّ جزء من طبيعتنا البشرية. أنا شخصياً لم أقتنع يوماً بهذه النظريات، التي تدحضها، بالنسبة إليّ، تجربتي الشخصية مع البشر، ونظريّات أخرى أكثر إقناعاً وتعمّقاً في التاريخ والإنتروبولوجيا.

مهما كانت اقتناعاتنا، نلجأ في العادة إلى مقاربة لتفادي هذا الإقرار المؤذي ضميريّاً، بأنّنا أشرار، فنركّز على الظروف التي تدفع الإنسان الطبيعي الى القتل والاغتصاب. لكنّ الظروف هي أيضاً ابنة المجتمع، فلماذا لا نتّهم المجتمع في هذه الحالة؟

لأنّنا نعتبر، أو نريد أن نعتبر، أنّ هذه الظروف "استثنائيّة" في حياة المجتمع "الطبيعيّة."

ماذا لو تكاثرت جرائم القتل والاغتصاب، كما في أيامنا هذه،
ألا يستدعي ذلك بداية اعتراف أنّ مجتمعنا بات يخرّج مرضى نفسيّين- اجتماعيّين، يجولون بين البشر فيقتلون ويغتصبون؟

لا أتعامل مع المرض النفسيّ أو المرض النفسيّ- الاجتماعيّ، كعيب أو كمسّ شيطانيّ، وأكنّ كلّ الاحترام لجميع المرضى، وأتعاطف معهم، لا بل أتفهّمهم. فهم بشر مثلنا، قست عليهم ظروف الحياة والعلاقات الاجتماعيّة أكثر ممّا قست على البشر "السليمين". ومعظم المرضى النفسيين، أو النفسيّين-الاجتماعيين، لا يقتلون ولا يغتصبون، ويؤذون أنفسهم أكثر ممّا يؤذون غيرهم.

لكن مع ذلك أصرّ على اعتبار القتل أو الاغتصاب أو التعنيف، نتائج لأمراض نفسية- اجتماعية تصيب العقل والعاطفة والسلوك عند البشر، فيتحوّلون من أناس طيّبين إلى أناس مجرمين.

انظروا إلى هذا الجدّ الذي من المحتمل أن يكون اغتصب حفيدته، وهي لا تزال طفلة. تأمّلوا جيّداً عبر الفيديو، هذه المرأة التي تعنّف أطفالاً في دار الحضانة. بدل أن تكتفوا بشتمهما، تساءلوا كيف أصبحا بهذه الوحشيّة. هذا الجدّ هو جدّ، وهو من خلّف وربّى ابنته والدة الطفلة التي اغتصبها. وهذه المرأة، حاضنة الأطفال، هي امرأة وربما هي أمّ وعندها أولاد، عنّفتهم أو لم تعنفّهم. وربما اختارت أن تقوم بهذه الوظيفة لأنّها تحبّ الاعتناء بالأطفال أو لأنّها فقط تحتاج إلى عمل.

ما الذي جرى لهما ليصبحا بهذه البشاعة الإنسانية؟ كيف تربّوا، عائليّاً ودينيّاً ومدرسيّاً واجتماعيّاً وجنسيّاً، كيف عاشوا حياتهما، في العائلة، في الزواج، في العمل، في الحيّ، في المنطقة. كيف تعطّل العقل وقسا القلب وشُلّت الإرادة؟ لأيّ زلزال نفسيّ- اجتماعيّ تعرّضا؟

لو كان هذان المثلان استثناءً في مجتمعنا، لأمكننا أن نقول "بتصير". إنّما مثل هذه المآسي تتكرّر كلّ يوم، وتتنقّل من منطقة إلى أخرى، وتطال في حالات أخرى أطفالاً آخرين، يُغتصبون أو يُرمون في براميل للنفايات وهم أحياء، ونساء مطلّقات يُقتلن بكلّ فخر، ولا أحد يجرؤ حتّى على السؤال عنهنّ. ناهيك عن العنف المستشري بين الرجال أنفسهم، على أحقيّة مرور، أو على نظرة "غير شكل"، أو على سرقة، أو تنفيذاً لثأر، أو حتّى على كلمة قيلت في برنامج حواريّ تلفزيونيّ.

صحيح أنّ السلاح المتفلّت، يسهّل اللجوء إلى العنف، لكنّ المشكلة تبدو لي أعمق، وهي أصبحت متجذّرة في مجتمعنا، في تربيتنا العائليّة، في نظرتنا إلى أنفسنا وإلى الآخر، في بعض تعاليمنا الدينيّة، في كبتنا الجنسيّ وفي نظرتنا إلى الجنس بشكل عامّ، في فقرنا وتعب أعصابنا ويأسنا من الواقع، وفقدان أملنا بالمستقبل.

عيوننا شاخصة على الوضع السياسيّ والاقتصاديّ المنهار، لكنّنا لا نفعل شيئاً لنواجه، فيما الأوضاع العائلية والتربوية والثقافية والبيئية تتردّى، وتجعل منّا بشراً أردياء.

علينا إضافة عامل تحوّل كثيرين منّا إلى بشر أردياء، لنفهم أكثر لماذا بات شعبنا لا يواجه الظلم السياسيّ والاقتصاديّ.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium