النهار

قطار الأمن والتنمية... ومحطّة طهران
لقاء وزيرَي الخارجيّة السعوديّ والإيرانيّ.
A+   A-

كيف ترى السعودية العلاقة مع إيران؟ ما هو المنظور الآني والاستراتيجي؟ وهل يتوقع للاتفاق الأخير، الموقّع في بكين في آذار الماضي، أن يصمد أو يفشل  في السنوات المقبلة على ضوء الإخفاقات السابقة؟ من هي الدول والجماعات المستفيدة والمتضررة من التوافق بين البلدين؟ وهل سيكون لها دور في تعضيد الاتفاق أو تعطيله؟ وما هي ضمانات النجاح الداخلية، الثنائية والأجنبية؟

الأسئلة الشائكة
هذه هي الأسئلة المطروحة اليوم، بل ومنذ أن أُعلن عن الاتفاق "المفاجئ" في بكين (آذار 2023). ذلك أن التاريخ المتقلب للعلاقات بين المملكة العربية السعودية وجارتها الكبرى، الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بين تقارب وتباعد، تفاهم واختلاف، ومصالح تلتقي وتتضارب، أحياناً في نفس التوقيت، يثير التساؤل حول مبررات تغيير الاتجاه من التصادم إلى الاتفاق، وماهية الوسائل التي ستلجأ إليها القيادات لتلافي مسارات الارتطام، واتباع ممرّات السلام؟

وماذا عن الملفّات الشائكة والكيانات والمصالح المرتبطة بها؟ هل سيتم التنازل عن مطالب، والتخلي عن دول وأحزاب وميليشيات، وتغيير بعض السياسات، والقبول ببعض الخسائر؟ أم أن الأمر مجرد هدنة وسكون وكمون، ثم تعود "حليمة لعادتها القديمة"!.

لقد نص الاتفاق الأخير على إحياء آخر اتفاقين تم التوقيع عليهما في طهران، عام 1998 و 2001 في عهدي الرئيسين محمد خاتمي وأحمدي نجادي، وشملا كل المختلَف عليه اليوم، من مسائل وترتيبات أمنية، وتفاهم سياسي، وتعاون اقتصادي ونفطي وعلمي وتعليمي، وحتى رياضي. والسؤال: لماذا لم يتم الالتزام بما تم التوافق عليه؟ وما هي فرص أن يختلف الأمر هذه المرة؟

المتشائمون يطرحون أسئلة منطقية... والمعارضون يثيرون شكوكاً جدية. ولكن السؤال الذي يجب أن يطرحوه أيضاً: ما هو البديل؟ هل لديهم حلول أفضل؟

خيار الحرب والسلام
من السهل أن تشكك وتعارض وترفض، وأن تجد في كلّ حلّ ثغرة وضعفاً وفرصة للفشل. ولكن التحدي الحقيقي لكل صاحب نية مخلصة لإنهاء الأزمات الخانقة في المنطقة ومآلاتها الكارثية، أن يقدم لنا طروحات أنجع، لنتدارسها ونقارنها بالحلول والمبادرات الأخرى.

وحتى الآن، فإن معظم طروحات المعارضين تنحصر في الإبقاء على الوضع على حاله، حتى يرى الله لنا منه مخرجاً، أو مواجهة تصادمية مدمّرة. وفي الحالين لن يستفيد من هكذا خيارات إلا تجار الصراعات ومشعلو الفتن وأدوات الحروب.

تجسير المصالح
في المقابل، ترى السعودية وإيران أن بإمكانهما أن تبنيا على التعاون المثمر في مجال الطاقة، والذي أسفر عن تكاتف أعضاء أوبك وأوبك بلاس بشكل غير مسبوق، لمواجهة جشع كبار المستهلكين وضغوط الغرب لزيادة الإنتاج وتخفيض الأسعار. وكانت النتيجة استقرار السوق بما يخدم مصالح المنتج والمستهلك في آن.

هذه التجربة الموفقة تشجّع على تعميمها بحيث تشمل كافة المجالات. فما بين البلدين حالة تكامل هائلة وغير مستثمرة. فالموارد الطبيعية والبشرية والسياحية يمكن أن تحقق أعظم الفوائد لو بنينا جسر الصداقة والشراكة العريض، والمفتوح، بين ضفتي الخليج.

بدائل الصراع
وبدلاً، من أن نُعدّ عدّتنا لمواجهة ومنافسة وتحدّي بعضنا البعض، نستطيع معاً أن نستعدّ بها لمواجهة التحديات الخارجية، ونستعين بها على التداعيات السياسية والمالية والغذائية والإنمائية والأمنية للمخاطر الدولية، كأزمة الحرب الروسية الأوكرانية وعودة القطبية الدولية.

وبدلاً من بناء تحالفات حِمائية، يمكننا إزالة أسباب الحاجة إليها. فلا إيران بحاجة إلى التمترس استعداداً لعدوان تقوده أميركا وإسرائيل، وتشارك فيه بلدان عربية، أو تسمح له باستخدام أجوائها وبحارها. ولا هذه البلدان بحاجة للاستعانة بغير الأشقاء لمواجهة المخاطر التي تشكلها الميليشيات المدعومة والبرامج العسكرية المريبة والتدخلات غير المرغوبة في شؤونها الداخلية.

وفر وأرباح
فواقع الحال، أننا جميعاً مستهدفون، وأن رهان المستعمر كان دوماً وأبداً على فرقتنا وخلافاتنا العرقية والمذهبية والسياسية، على مبدأ "فرّق تسُد". وهذا يفسر الصدمة التي أصابت الغرب والقلق الذي انتابه من الاتفاق السعودي الإيراني. أما إسرائيل، فقد نزل عليها الخبر كالصاعقة. فقد سقط بذلك أهم مسوّغاتها للتطبيع، بزوال الحجة والحاجة إلى حلف دولي لمواجهة "الخطر الإيراني".

ولو أخذنا أمن الخليج والبحر الأحمر والمضائق البحرية مثلاً، لأمكن لنا تخيّل كمّ التوفير الذي سنحققه من تخفيض التصعيد العسكري والأمني. ولو أضفنا الاستثمار المتبادل في التنقيب والصناعات البتروكيمائية والمدن الجديدة والسياحة والتجارة البينية، لاتضح لنا، ولو بالعناوين العريضة، حجم الربح الذي سنجنيه معاً. ولو زدنا التعاون المتوقّع بين أكبر شعوب المنطقة في كل مجالات التعليم والعلوم الحديثة والبناء والزراعة والطاقة المتجددة، لاكتملت الصورة الجذابة لنموذج محفِّز لكافة بلدان وشعوب المنطقة والعالم.

الأحلام الممكنة
أتخيّل، مثلاً، شركة أرامكو، وهي إحدى كبريات شركات الطاقة في العالم و أكفؤها في استخراج النفط بأقل التكاليف المالية والبيئية، تعمل مع نظيرتها في إيران على استغلال أمثل لحقول النفط والغاز، وتطوير الحقول غير المستغَلّة، ثم ضخّها عبر شبكة أنابيب السعودية وصولاً إلى البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط.

وأتصوّر شركة سابك، أحد أكبر منتجي البتروكيماويات دولياً، وهي تستثمر في مناطق صناعية جديدة تعطي النفط والغاز الإيراني قيمة مضافة بتحويلهما إلى منتجات أساسية وثانوية ونهائية، تدخل كل بيت في كل بلد. وتصل إلى كافة أسواق العالم عبر قطارات ومسارات درب الحرير وبواخر الطوق البحري التي تنطلق من الصين وإليها، مرورا بإيران، وعبر الأراضي والبحار السعودية.

كما أتخيّل المستثمر والتاجر والعالم والخبير الإيرانيين وهم يشاركون في بناء وتطوير مدننا الجديدة، السكنية والصناعية والرياضية والترفيهية، ويساهمون في مبادرة الشرق الأوسط الأخضر. ويصدّرون ويستوردون المنتجات الزراعية والصناعية للبلدين. وأتصور حرارة الترحيب بالسائح والأستاذ والطالب والزائر المشاركين في برامج سياحية وثقافية وعلمية وتعليمية، توطّد أواصر الثقة والمحبة بين الشعبين، وتنهي دور القنوات الوسيطة وزارعي الفتن، الذين شوّهوا الصورة واستثمروا في الشكّ والخوف، ونفخوا الكراهية في الصدور.

النتائج الملموسة
تحقيق هذا النجاح الذي تستفيد منه وتستشعره الشعوب بقدر استفادة الحكومات، وهذه المصالح، المثمرة، المتداخلة، والمشتركة، هي الضامن الأكبر والأقوى للاتفاق السعودي الإيراني. وأي معضلة أو خلاف قد يحدث، يمكن حله في إطار حسن الظن وروح التعاون والآليات الدبلوماسية والسياسية والتجارية المخصصة لإدارة الخلافات والاتفاقات الحاكمة لها. ولعلنا نسمع قريباً عن إطلاق مسار السلام في اليمن، وتحقيق شروط العودة الكاملة للاجئين إلى سوريا، وحل الفراغ الرئاسي والحكومي في لبنان، وضبط الجماعات والسلاح المتفلّت في العراق.

من هذا المنظور أتفاءل بمستقبل العلاقات السعودية الإيرانية، وأدعو المتشائمين المعارضين إلى النظر في فوائده والمشاركة في إنجاحه. وفي غياب البدائل الأفضل. وبعد تجربة مريرة مع الوضع الحالي، عمرها تجاوز الأربعين خريفاً، آن الأوان لدعم الاتفاق السعودي الإيراني، وتوسيع دائرته لتشمل جميع الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وإعطائه الفرصة الكاملة لتحقيق أسمى اهدافه: بناء شراكة إقليمية دائمة للأمن والتنمية.

أهلاً بالرئيس إبراهيم رئيسي في السعودية، وبالوفود الإيرانية في المؤتمرات والمعارض والمناسبات الدولية في الرياض وجدة، و"خوش آمدید" بالجمهورية الإسلامية الإيرانية في الشرق الأوسط الجديد. القطار السعودي السريع للأمن والتنمية في طريقه إلى المحطات الجديدة... مرحباً طهران!

*كاتب سعودي وأستاذ جامعي

@kbatarfi

 

اقرأ في النهار Premium