النهار

العالم يُعيد إنتاج محاور لإدارة الأزمات... وتبقى الحربُ مستبعدةً!
هادي جان بو شعيا
المصدر: "النهار"
العالم يُعيد إنتاج محاور لإدارة الأزمات... وتبقى الحربُ مستبعدةً!
الرئيسان الأميركيّ والصينيّ يتصافحان على هامش قمّة العشرين العام 2022. (أرشيفية- "أ.ف.ب").
A+   A-
لم يكن تقرير الاستخبارات الأميركيّة، الذي صدر يوم الخميس الماضي، الأوّل من نوعه الذي كشف أنّ الصين ترسل إلى موسكو تكنولوجيا عسكرية لاستخدامها في حربها في أوكرانيا. إذ يضاف هذا التقرير إلى تقارير سابقة لا حصر لها، لكن هذه المرّة يأتي التقرير مدعوماً بالدلائل، حسب ما تقول واشنطن.
 
يذكر التقرير أنّ الشركات الصينية تشحن معدّات ملاحة وتقنيات تشويش وقطع غيار طائرات مقاتلة لشركات الدفاع الروسية المملوكة للدولة، ما يقودنا إلى طرح السؤال الآتي:
 
ما هي الاستراتيجية التي تعتمدها الصين الآن بغية استفزاز الغرب، إن صحّت هذه المعلومات، خصوصاً أنّ العلاقات الصينية-الروسية أعمق من أيّ وقت مضى، سواء على صعيد التعاون التكنولوجيّ أو حتّى على صعيد التعاون العسكريّ، كما تقول واشنطن؟
 
إذا أجرينا قراءة وصفيّة للخطوات التي تمضي بها الصين إزاء العلاقة مع روسيا ودعمها لها، يمكن تشبيهها بـ"من يمشي على البَيض ولا يريد أن يكسره"، لذلك نلاحظ أنّ هناك تريّثاً وتحفظّاً والإبقاء على مسافة بعيدة بما يناقض، إلى حدّ بعيد، بين ما توقّعه الكرملين وقتما تقاربت بيجينغ وموسكو، ما أوحى للرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين أنّه يعمل مع الصين ضمن حلف اقتصاديّ-عسكريّ متماسك، فضلاً عن كونه يشمل الهجمات السيبرانيّة وأبحاث الفضاء، الأمر الذي أثار لعاب روسيا لتعاون لامتناهٍ مع الصين.
 
بيد أنّ الصينيين أبدوا، منذ عامين تقريباً، نوعاً من التحفّظ، إذ لا يريدون أن يتمّ إدراجهم ضمن حلف استراتيجيّ حقيقيّ مع القيصر الروسيّ. لذلك نلاحظ أنّ ما كشفته الاستخبارات الأميركية يندرج ضمن حدود الأدوات والتكنولوجيا العسكرية، لا ترقى إلى مستوى تسليم صواريخ أو قذائف أو مدفعيات، بمعنى أوضح ليس هنالك أسلحة متطوّرة.
 
ولعلّ الخطاب الصينيّ الذي خرج إثر نشر تقرير الاستخبارات الأميركية إنّما ينطوي على تبريرات التعاون مع الروس في أوكرانيا، الذي يندرج في سياق تعاون شركات خاصّة صينية مع شركات خاصّة روسية، الأمر الذي ينقل الخطاب الرسميّ من مستوى الحكومات إلى القطاع الخاصّ، وفق مبدأ آدم سميث "دعه يعمل... دعه يمرّ" في كلاسيكيّته الشهيرة "ثروة الأمم".
 
ما يفسّر سلوك الصين ونهجها الحاليَّيْن يستند إلى إدراكها التامّ بأنّ أيّ مغامرة تفضي إلى دعم روسيا عسكريّاً عبر إرسال أسلحة متطوّرة سيسلّط عليها سيف العقوبات الغربيّة على الصعيدين الأميركيّ والأوروبيّ على حدّ سواء.
 
إذن ترمي الصين من خلال سياستها الناعمة إلى تحقيق هدفين أساسيّين:
 
- البقاء قريبة إلى حدّ ما من روسيا، لكن دون أن يتمّ إدراجها ضمن الحلف الروسيّ-الصينيّ.
 
- مواجهة الغرب اقتصاديّاً أكثر من مواجهته عسكريّاً، وإن كانت هناك عسكرة واضحة لمنطقة بحر الصين الجنوبيّ، فضلاً عن المنطقة المحيطة بتايوان.
 
وعليه يمكن وصف التصعيد الحاصل بسياسة الاحتواء الاستراتيجيّ التي لا تدفع باتّجاه قلب المواقف الغربيّة إلى مواجهة، أو يرفع من منسوب المخاوف المتزايدة.
 
قد يقول قائل أنّ هذه ليست المرّة الأولى التي تأتي فيها الاستخبارات الأميركيّة أو حتّى الغربية بتقارير من هذا النوع، ولكن هذه المرّة قد تكون للتوقيت دلالات معيّنة، خصوصاً مع الأدلّة والأمثلة التي ذُكرت، فما هي الرسائل التي تعتزم واشنطن إبراقها؟ وهل تهدف إلى إحراج الصين ووضع روسيا في حجر الزاوية من جديد؟ أم هناك رسائل أخرى؟
 
ممّا لا شكّ فيه أنّ هناك أكثر من دلالة ورسالة خارجية وداخلية في السياق الأميركي الذي ينطوي عليه التقرير، خصوصاً أنّه لم يصدر عن حكومة الرئيس الأميركي جوزف بايدن، إنّما أصدرته لجنة متخصّصة منبثقة من لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأميركيّ الذي يخضع لأغلبية الحزب الجمهوريّ على حساب الحزب الديموقراطيّ، الأمر الذي يفسّر طابعَي الاستقطاب والتجاذب بين الديمقراطيين والجمهوريين، خصوصاً أنّه يأتي قُبيل الحملات الانتخابية الرئاسية التي ستستمرّ لغاية شهر تشرين الثاني من العام 2024، وهو الموعد المرتقب للانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة.
 
ونذكر هنا في عجالة الدلالات والرسائل التي تضمّنها التقرير:
 
-الأولى، يسعى الجمهوريون إلى إحراج حكومة بايدن التي، وفق قراءتهم، لم تفعل ما يكفي إزاء ما وعدت به منذ اليوم الأوّل لبايدن في البيت الأبيض، حيث قال إنّ الاستراتيجية الأميركية في هذه الحقبة تقوم، في الأساس، على احتواء الصين "Containment of China" التي أثبتت ضعفها نتيجة إجراءات غير حاسمة، على حدّ وصف الجمهوريين الذين يزعمون أنّهم الأفضل في مجال العلاقات الخارجية للولايات المتّحدة الأميركيّة.
 
-الثانية، تذهب في اتّجاه الصينيين، ومفادها أنّه على الرغم من عدم مواجهة الحكومة الأميركيّة الحالية بيجينغ بالصرامة والقسوة المنشودتَيْن، فالحزب الجمهوريّ الممثّل بمشرّعين داخل مجلس النوّاب يراقب عن كثب، ويعلم ما تخطّط له الصين مع روسيا في أوكرانيا.
 
- الثالثة، تسير في اتّجاه الروس، بأنّه مهما كان هناك من تعاملات من "تحت الطاولة" بين بيجينغ وموسكو، إلّا أنّها تصل في نهاية المطاف إلى رادارات وأعْيُن الاستخبارات الأميركيّة.
 
أمام ذلك كلّه، وفي أيّ حال من الأحوال، وحتّى لو بدا أنّ هناك تصعيداً بين الصين من جهة، والولايات المتّحدة الأميركيّة من جهة أخرى، لكن لا يرقى إلى إعلان حرب أو حتّى تصعيد حقيقيّ، بمعنى آخر يمكن وصف ما يحصل بالتنبيه وليس التحذير. ذلك أنّ أيّاً من واشنطن وبيجينغ لا يريد التحرّك إلى الأمام في اتّجاه مواجهة عسكرية، كما أنّ لا أحد يريد السقوط في وحول حرب مفتعلة، سواء بسبب التقارب الصينيّ-الروسيّ، أو بسبب التجاذب الذي بلغ أقصاه حول مستقبل جزيرة تايوان.
 
وعلى ذكر تايوان، هل يمكن ربط التقرير الاستخباريّ، من ضمن الرسائل للصين وروسيا، بما أعلنته الصين عن اعتزامها تكملة المناورات العسكرية مع الروس، والتي تشمل منطقة واسعة في بحر الصين الجنوبيّ التي تمتد من 29 تموز الحاليّ حتى 2 آب المقبل؟
 
لا يختلف اثنان على أنّ الصين لا ترتفع حالة التأهّب لديها، من الناحية العسكريّة، إلّا عندما يتعلّق الأمر بما تفعله حكومة تابيه في تايوان من جهة، أو بأيّ تقارب سياسيّ أو أيّ مناورة أميركيّة-تايوانيّة قرب التراب والسيادة الصينيَيْن، وهنا يكمن مربط الفرس، إذا جاز التعبير، عندما تنقلب الاستراتيجية الصينية من مجرّد مناورة اقتصادية أو مناورة محسوبة مع روسيا إلى تصعيد عسكريّ.
 
ولا أدلّ على ذلك ممّا أفرزته زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركيّ السابقة نانسي بيلوسي إلى تايبيه الصيف الماضي، أو عند زيارة الرئيسة التايوانية تساي إنغ ون إلى كاليفورنيا قبل أشهر عدّة، بحيث تزداد وتيرة المناورات الصينية التي ترافقت مع تحريك 25 طائرة فوق الأجواء التايوانية التي تشكّل الملفّ الساخن في العلاقات الأميركيّة-الصينيّة.
 
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الصين تعتمد "سياسة إحراج" الولايات المتّحدة الأميركيّة أمام الرأي العام العالميّ، خصوصاً عندما تعلن واشنطن سواء عبر البيت الأبيض أو الكونغرس الأميركيّ أنّ السياسة الأميركيّة تقوم على احتواء الصين الواحدة، ما يُبرز تساؤلاً حول الغاية الأميركيّة الكامنة خلف دعم تايوان التي تعتبرها بيجينغ تخضع للسيادة الصينية، ولذلك تعتمد خطاب الدفاع عن السيادة أمام الرأي العام في تلك المنطقة عموماً، والصينيّ خصوصاً، إذ لا يمكن تجزئة السيادة الصينية على الصين والبرّ الصينيّ، وأيضاً على جزيرة تايوان.
 
وانطلاقاً من "سياسة الإحراج" التي تتبعها بيجينغ، برز حدث لافت أواخر الأسبوع الماضي تمثّل بثقافة الإحراج في العلاقات الدولية وتحديداً في كوريا الشمالية، حيث وقف الثلاثيّ الصينيّ والروسيّ والكوريّ الشماليّ أمام استعراض القوّات العسكرية في بيونغ يانغ، وكأنّهم يقفون أمام متجر للأسلحة في محاولة لإبراق رسائل متعدّدة في اتّجاهات مختلفة.
 
في المحصّلة، يمكن اختزال المشهد العامّ عموماً بأنّ العالم يعيد إنتاج شبه محاور لم تكتمل أضلاعها بعد، حيث يبرز المحور الشرقيّ الذي يضمّ الصين وروسيا وكوريا الشمالية، يقابله محور مؤلّف من اليابان وكوريا الجنوبية اللتين تنحوان باتّجاه منحى غربيّ محض، بالتزامن مع استعداد أميركيّ جدّي لاحتضان الأمن القوميّ اليابانيّ والكوريّ الجنوبيّ وحتّى تايوان إثر تصريح بايدن الشهير بالدفاع عن تايبيه إذا ما تعرّضت لأيّ تهديد صينيّ. لكن مهما ارتفعت وتيرة وخطابية استعراض القوّة إنّما يبقى في إطار مسعى كلّ هذه الدول لإدارة هذه الأزمة وليس للذهاب في اتّجاه المواجهة والصدام المحتومَيْن.
 

اقرأ في النهار Premium