أحمد عثمان
تأتي الذكرى الثالثة لتفجير مرفأ بيروت وسط مشهدٍ سوريالي، حيث أهالي الضحايا يتم توقيفهم والتحقيق معهم بشكلٍ دوري، فيما المتهمون الأساسيون في ملف الانفجار لا يزالون أحرارًا طليقين، بل لا يزالون في مناصبهم في الحياة العامة والمجلس النيابي، بما في ذلك لجنة الإدارة والعدل النيابية إياها. في ما يخصّ التحقيق القضائي في هذه الجريمة، يواجه المحقق العدلي القاضي طارق البيطار دعوى قضائية من النائب العام التمييزي غسان عويدات، فضلًا عن 46 دعوى رد ومخاصمة للدولة رفعها المدعى عليهم ضده بهدف كفّ يده عن الملف، بالإضافة إلى تهديدات جدية بالقتل حتّمت عليه اللجوء إلى الحماية العسكرية، ومنع السفر. باختصار، المشهد فظيع، وبعد ثلاث سنوات من النضال الدؤوب والموجع، نحن اللبنانيين واللبنانيات لا نزال بعيدين كل البعد عن معرفة الحقيقة والمحاسبة وإحقاق الحق.
في بحثنا عن الأمل، يكون من المفيد أن نضع مأساتنا في المنظار المقارن، وذلك لأن ثمة بعض عزاء في معرفة أننا لسنا أول سياق تاريخيّ يكون فيه شعبٌ ما في مواجهة الفاجعة.
أعتقد أنه من الضروري لنا أن نتأمّل في تجربة الأرجنتين في التعامل مع ماضيها، أو ما يشير إليه البريطانيون والأميركيون بـ"العدالة الانتقالية". مثلنا، الأرجنتين أكثر أوروپيّةً من باقي محيطها، ومثلنا، كانت مشروعًا واعدًا بمقوّمات طبيعيّة وبشريّة جيّدة. نتيجة خيارات سيّئة اتخذتها نخبتها السياسية، الأرجنتين مثلنا فشلت (إلى الآن أقلّه)، ومثلنا تعاني أزمات مالية متلاحقة.
مثلنا، الأرجنتين أرادت أن تعرف الحقيقة، على أنها سبقتنا في الفاجعة كما في المسار، وبالتالي من المفيد أن نسترشد بتجربتها.
يُشار إجمالًا إلى الفترة الممتدة ما بين عامَي 1974 و1983 في الأرجنتين بـ"الحرب الوسخة" (Guerra sucia)، وهي لم تكن حربًا بمعنى النزاع المسلّح، بقدر ما كانت حملة من القمع قادها الحكم العسكريّ اليمينيّ آنذاك على أطياف المعارضة اليسارية الپيرونية. خلال تلك الفترة، قامت "فِرَق الموت" التابعة للجيش الأرجنتيني بعمليات اغتيال وتعذيب واغتصاب وإخفاء قسريّ ممنهج، تراوحت بحسب المصادر ما بين 9,000 و30,000 شخص.
في هذا السياق، تظاهرت أمهات بعض المخفيّين/ات قسرًا في عام 1977 في "ساحة أيار" (Plaza de Mayo)، وهي الساحة العامة المواجهة للقصر الرئاسي، وطالبن بعودة أبنائهنّ أحياء. الأكيد أن أحدًا من هؤلاء الأبناء لم يعد حيًّا، غير أن أغلب أمهات ساحة أيار توقّفن في كانون الثاني من عام 2006 عن التظاهر، وصرّحن بأنّ "العدو لم يعد هو مجلس الشعب". ولا عجب، ذلك أن الأرجنتين كانت قامت بعملية متكاملة من المحاكمة للعناصر المسؤولة عن الانتهاكات الحقوقية لتلك الحقبة، كما أنها عوضت لأهالي الضحايا.
من النموذج الأرجنتيني، نستطيع أن نستخلص أربع عِبَر:
أولًا، أن مسار العدالة الانتقالية طويل وشاق، وأنه ليس مسارًا خطيًّا مستقيمًا، بمعنى أنه بين المسيرة الأولى والبيان الأخير كانت ثلاثة عقود، لا ثلاث سنوات. قطعًا، تنظر اليوم حركات المناصرة للعدالة الانتقالية في العالم إلى أمّهات ساحة أيّار ضمن قصص النجاح التي تُستخلص منها العِبَر، لكن لو كنا قد نظرنا إلى "ما حققته الأمهات" بعد ثلاث سنوات على انطلاقة تحرّكهنّ، أي عام 1980، لكنّا رأينا كلّ أسباب اليأس: كانت *"الجونتا" العسكرية الحاكمة المسؤولة عن الإخفاءات والتعذيب لا تزال في مجلس الشعب الأرجنتيني، بل كانت في صدد تصدير "الأسلوب الأرجنتيني" في قمع اليسار نحو نيكاراغوا وهندوراس.
صحيحٌ أن الأرجنتين كانت في عام 1985 أجرت محاكمات لتسعة من كبار المسؤولين، إلا أن مجلس الشعب الأرجنتيني تبنى في نهاية عام 1986، وتحت ضغط من العسكر، قانون "النقطة الختامية" (Ley de Punto Final)، الذي أوقف المحاكمات، كما ألحق به قانون "الطاعة الواجبة" (Ley de obediencia debida) عام 1987، الذي أعفى العناصر الدنيا في القوى العسكرية والأمنية من المسؤولية عن أية ممارسات لهم/ن خلال سنوات الحرب الوسخة، باعتبارهم/ن كانوا في صدد تنفيذ الأوامر لا أكثر. بعد ذلك بسنتين، تسلّم كارلوس منعم رئاسة الأرجنتين، وكان ضمن أوّل ما قام به إصدار عفو رئاسيّ عن المحكوم عليهم خلال محاكمات 1985.
كان على أمّهات ساحة أيّار أن يبقين على تأهّب 14 سنة، إلى أن أعلن مجلس الشعب إياه عام 2003 أن قانونَي "النقطة الختامية" و"الطاعة الواجبة" في حكم الإلغاء. بعدئذٍ، أعلن المجلس الدستوري عام 2005 عدم دستورية القانونَين، مما أتاح المجال لاستئناف المحاكمات بعد توقّف 20 سنة تمامًا.
نكون على سذاجة إذا ما افترضنا أن السّلطة الحاكمة سوف تفسح لنا المجال لمعرفة الحقيقة ولمحاسبتها من تلقاء نفسها. في سياقات مثل هذه، فلنتوقّع من السلطة استشراسًا عنيفًا، ولنتوقّع مطبّات وانعطافات وحتى هزائم صغيرة وكبيرة لصالح السلطة. من الحتمي علينا إذن أن نحتفظ بنفسٍ طويل.
تأخذني هذه النقطة إلى العبرة الثانية من النموذج الأرجنتيني، ألا وهي أن تطوّر الملف، أي ملف، لا يأتي في فراغ، بل هو جزء من السياق التاريخي لبلده. في حالة الأرجنتين، لم تكن محاكمات 1985 ممكنة لو لم ينهر حكم العسكر فيها عام 1983 بعدما كان فقد الدعم الأميركي قبل ذلك بعامٍ واحد؛ ومن الصحيح أن العامل الإقليمي هنا كان حاسمًا (بل هو دائمًا حاسم)، إلا أن التجييش الشعبي لأمهات ساحة أيار خلال سنوات الحكم الديكتاتوري وضع قضيّة المخفيّين في قلب النقاش السياسي الأرجنتيني، ريثما اختمرت عوامل التغيير السياسي، فأتت المحاكمات تتويجًا لهذا المسار.
ثالثًا، حتى في غضون التحركات المطلبية، فإن الانقسامات تحدث، وليس هذا بنهاية العالم: ما ذكرته عن بيان أمهات ساحة أيار عام 2006 أن "العدو لم يعد هو مجلس الشعب" لم يكن دقيقًا، فالأمّهات انقسمن عام 2006 فعلًا فريقين، أحدهما كتب بيان عام 2006، والآخر استمرّ يتظاهر كلّ خميس إلى يومنا هذا. من الممكن لنا أن نفتي بأنه لولا هذا الانقسام، لكان مسار المحاسبة سيكون أسرع، لكن هذا ليس بأكيد. الأكيد هو أن انقسام الحركة المطلبيّة لا يعني نهايتها.
رابعًا، أن ثمن المحاسبة باهظ. في حالة أمهات ساحة أيار. بعض الأمهات أنفسهن تم إخفاؤهن قسرًا، أذكر منهن تحديدًا أسوسينا ڤيلافور لكونها إحدى الأمهات الـ14 اللواتي نزلن في أوّل مسيرة في 30 نيسان 1977. بعد انطلاق نشاطها بسبعة أشهر، اعتُقلت ڤيلافور، وعُذبت، وقُتلت برميها من طائرة في المحيط الأطلسي (وهي ممارسة عُرفت بـ"رحلات الموت"). بعد أكثر من ربع قرن من ذلك، أي عام 2005، نقلت رفات ڤيلافور، ودفنت في ساحة أيار إيّاها نزولًا عند طلب أبنائها، كما سُمّي شارع في العاصمة بوينوس آيريس باسمها.
أذكر هذه الوقائع ليس فقط لإعطاء وجهٍ إنسانيّ فرديّ لهؤلاء الأمهات، بل دحضًا مسبقًا أيضًا لنظرية أنّ أمهات ساحة أيار كنّ يتحرّكن ضمن فضاء سياسيّ أرحب من الفضاء السياسي اللبناني، ولأؤكّد أن توقيفًا من هنا، ودعوةً قضائيةً من هناك، يجب ألا يتسبّبا بالإحباط لمتابعي قضية مرفأ بيروت.
أعود إلى ما حدا بي إلى كتابة هذه المقالة من أساسه، ألا وهو بحثي المستميت عن الأمل عشية الذكرى الثالثة لتفجير المرفأ. لي أربعة أيام طوال أمضيتها في البحث والقراءة عن السياقين اللبناني والأرجنتيني، والكتابة شديدة التقطّع، بما فيها مشاركتي في مسيرة الرابع من آب من مركز الإطفائية نحو المرفأ. أستطيع أن أقول صراحةً أنّني فوجئت بأن عدد المشاركين في المسيرة قد ازداد عن العام الفائت، أنا الذي بدأت بحثي استباقًا لمشاركة توقّعتها مضمحلة في المسيرة، واستنباطًا لأملٍ من وراء البحار لهذه القضيّة النبيلة. أعتقد أن قضيّتنا لن تستغرق ثلاثة عقود لكي تتحوّل هي الأخرى نقطةً مضيئة في مسار العدالة الانتقالية، وسوف يأتي يومٌ يسترشد فيه سوانا بمثالنا.