السائد تقليدياً، التعامل مع الفقر كموضوع للإحسان من منظار ديني، لأن الدين يُعدّ جزءاً مهماً من تكوين الهويات الجماعية، فهو يمنح قاعدة للتضامن الاجتماعي والحشد السياسي. لكن الفقر أصبح موضوعاً سوسيولوجياً للدراسة في مطلع القرن الماضي. ويُعدّ الفقر الآن أحد أشكال العنف التي يتعرّض لها الإنسان.
تاريخياً، الفقراء هم البشر غير المرئيين، شخوص خرساء، إنهم الذين "لا صوت لهم" إلا كآثار عابرة تركها عنهم من لا يعانون الفقر. التاريخ لم يعرف للفقراء حضوراً أو صوتاً. فالتاريخ لم يكن ينقل لنا سوى سِير وحكايات الملوك والأمراء والحكام وأبطال المعارك العسكرية؛ سواء في لهوهم أو في عنفهم. لم يُذكر الفقراء إلا في معرض الشفقة وطلب الإحسان. انتظر الفقراء بتواضع على عتبة التاريخ حتى مطالع القرن الماضي قبل أن يتم التعرف إليهم، لكن بشروط.
لكن ما هو الفقر؟
في الفرنسية نسقط في الفقر كما في حفرة ونهوي في ظلمات العوز. في العربية أيضاً، فَقَرَ حفرة أي حفرها، فقُر الرجل: أي كسر فقار ظهره. فقر الخرز أي ثقبه. وفي الحالين نجد معنى السقوط والتدهور والانحلال وانكسار الظهر. وغالباً ما يكون الفقر مسؤولية صاحبه أو قدره. يصبح عندها كعاهة لا يمكن الاعتراض على وجودها!!
وهذا ما يجب معالجته، إبطال فكرة الاستسلام أمام حالة الفقر. إنها مسؤولية الدولة وسياساتها والمجتمع والحروب والمجاعات والكوارث الطبيعية والأزمات الاقتصادية المنتجة الأساسية له.
حالة الفقر وضعية يخضع لها الفقير. تظل آنية أو تصبح دائمة. حالة ضعف وتبعية وتواضع، تتسم بالحرمان من الموارد وحرمان من المال والسلطة والنفوذ والعلم وشرف المحتد، أو من القوة الجسدية أو القدرات العقلية أو الحرية. وذلك بحسب الحقب والمجتمعات. الفقر مهين للكرامة الشخصية ويضم كل المستبعدين من المجتمع السويّ.
تغيّرت في القرن الحادي والعشرين معايير قياس الفقر عموماً، وبحسب تقرير التنمية البشرية لـ2019 حصل تقدّم ملحوظ في الحد من أشكال الحرمان الشديد، فقد أفلت من براثن الجوع والمرض والفقر في أنحاء العالم عدد غير مسبوق من الناس الذين قفزوا فوق الحد الأدنى لمعيشة الكفاف.
لكن جائحة كوفيد، والحرب الدائرة في أوكرانيا، والعنف المستمر في العالم وفي العالم العربي، والزلزال في تركيا وسوريا أخيراً، تسببت بإفقار الكثير من الدول العربية ومن دول العالم النامي.
منذ ما قبل هذه الأزمة كان عدم المساواة مستشرياً. فرغم التقارب النسبي في الإمكانات الأساسية لدى الكثير من الدول، أي غذاء وتعليم وصحة، لدينا تفاوت كبير على صعيد الإمكانات المعززة والنوعية التي تطال الحصول على الخدمات الصحية الجيدة أو خدمات التعليم الجيدة والحصول على التكنولوجيات، ما يوفر المناعة تجاه الصدمات الجديدة غير المعروفة.
في العالم العربي لا يزال الفقر المدقع من أعلى المستويات. انظر: "الفقر في العالم العربي.. أرقام صادمة"، الحرة 16 كانون الأوّل 2018.
تميّز القرن العشرين بالنصوص العالمية المتعلقة بحماية حقوق الإنسان. من بينها الحق بتكوين أسرة والحق بحماية الحياة الأسرية.
لكن هذا التطور لم يعبّر عن نفسه على مستوى الواقع بشكل أتوماتيكي. ظلت الأسر الفقيرة منبوذة على هامش المجتمع ومعتبرة كغير مؤهلة. لكن تطوّر النظرة الى الحقوق الأساسية للإنسان أدّى الى ولادة اليوم العالمي للقضاء على الفقر في 17 تشرين الأوّل من عام 1987.
وقد أعلنوا أن الفقر يُشكل انتهاكاً لحقوق الإنسان وأكدوا الحاجة إلى التضامن بغية كفالة احترام تلك الحقوق.
لا يمكن الحديث عن الكرامة الإنسانية في ظل الحروب والعنف العسكري والاجتماعي.
الحديث عن كرامة في غياب المساواة ضرب من الخيال. والثقافة التقليدية تسهم في جعل اللامساواة مبررة ومقبولة واعتبارها أقرب الى الصفات الوراثية.
ومع أن هناك إجماعاً على الاعتراف بحقوق المرأة وبالمساواة بينها وبين الرجل في أكثرية دساتير البلدان العربية، غير أن مجرد وجود ضمانات دستورية تكفل حق المرأة، لا يتجسّد بالضرورة واقعاً تحقق فيه المرأة كامل حقوقها المدنية والقانونية والسياسية.
تتسم أوضاع النساء العربيات عموماً بالهشاشة، خصوصاً في البلدان التي تعاني من سوء التنمية أو الحروب؛ ما يزيد عدد الأرامل وبالتالي الأسر التي تديرها المرأة بمفردها. وهذا أحد أهم مسببات الفقر المستدام، لأنهن عندما يدخلن دائرة الفقر فهن معرضات للبقاء فيها.
من هنا بروز مفهوم تأنيث الفقر، وتصفه اليونيفيم (UNIFEM) بأنه «عبء الفقر الذي تتحمله المرأة، خاصة في الدول النامية»، فتعاني من مستوى معيشي منخفض لا يكفي لتغطية الاحتياجات المادية والمعنوية ما يؤثر سلباً على الاحترام الذاتي للفرد أو للمجموعة.
وهو ليس نتيجة لضعف الدخل فقط، بل أيضاً نتيجة للحرمان من الإمكانيات والتحيزات الجنسانية الموجودة في كل من المجتمعات والحكومات. وهذا يشمل فقر الخيارات والفرص، مثل التمكن من عيش حياة طويلة وصحية وخلاقة، والتمتع بالحقوق الأساسية وبالحرية والاحترام والكرامة.
يرتبط هذا المفهوم بمستوى المعيشة العام داخل المجتمع، كما يرتبط بكيفية توزيع الثروة ومكانة الفرد في مجتمعه، وبتوقعاته الاجتماعية والاقتصادية.
ونتائج الفجوات بين الجنسين في التوظيف، وأنشطة الأعمال، والحصول على التمويل، لا تكبّل الأفراد فقط بل الاقتصاد برمّته، ما يؤخر نموّ وتقدّم المجتمع.
لذا هناك اهتمام كبير الآن بتعزيز روح التضامن العالمي، بالتركيز على حاجات الفئات الأضعف والأشد فقراً. كما يجب الاعتراف وتشجيع الدور الذي يضطلع به القطاع الخاص المتنوّع، ابتداءً من المؤسسات المتناهية الصغر مروراً بالتعاونيات وانتهاءً بالشركات الكبرى؛ إضافة الى الدور الذي تضطلع به منظمات المجتمع المدني والمنظمات الخيرية في تنفيذ الأعمال المطلوبة.
للعمل الخيري القدرة على رفع آثار الأضرار المترتبة عن الأزمات الإنسانية، كما أن له القدرة على دعم الخدمات العامة في مجالات الرعاية الطبّية والتعليم والإسكان وحماية الأطفال. والعمل الخيري فاعل جداً في تحسين الثقافة والعلوم والرياضة وحماية الموروثات الثقافية، فضلاً عن تعزيزه لحقوق المهمشين والمحرومين ونشر الرسالة الإنسانية في حالات الصراع.
من المعلوم أن المجتمع المدني أقوى من الدولة في التجربة اللبنانية؛ فلقد اضطلع دائماً بالجوانب التي تقصّر فيها الدولة، وبرز دوره خصوصاً في السنوات الاخيرة. فمنذ جريمة انفجار المرفأ في 4 آب عام 2020، تكفل المجتمع المدني والجمعيات الخيرية بالاضطلاع بمسؤولية كافة المهام التي خلفها الانفجار، وقام مقام الدولة في ظل غيابها التام. من إسعاف المرضى الى رفع الأنقاض والترميم الى تدبير مساكن ومساعدات عينية لمن فقدوا منازلهم وهم بالآلاف. كل ذلك تكفلت به الجمعيات الخيرية والجمعيات المدنية.
إن كان العمل الخيري ضرورياً ويقوم بخدمات جليلة للمجتمع وللأفراد، ينبغي الحذر من أن يخلق مشكلة الاتكالية عند تلقي المساعدات بشكل دائم، فيتحول الفرد الى كسول مفتقد لروح العمل ويعتاش على الصدقات ومشاريع الإغاثة، فيتجذر الفقر. ونكون بهذا نتسبب بالضرر للمجتمع عندما نحول أفراده الضعفاء الى معتاشين دائمين.
من هنا أهمية وضع برامج تهتم، الى جانب المساعدة، بتوعية المستفيدين مع التدريب على برامج تنموية وإكساب معارف وتقنيات تسهم في تمكينهم كي يستقلوا ويصبح باستطاعتهم تلبية حاجاتهم وحاجات أسرهم.
مشكلتنا ليست في الفقر فقط، فهو يوجد في أغنى الدول وأكثرها ترفاً، ولكن في عدم قدرتنا على اجتثاث مسبباته والأخذ بأيدي الفقراء حتى يعتمدوا على أنفسهم، بل أيضاً في تفعيل عمل المؤسسات الرسمية والوزارات والقدرة على مواجهة الأزمات وتحويلها الى فرص.
* ألقيت هذه الكلمة في جلسة افتتاح "القمة العالمية للمرأة"، التي أقيمت في أبو ظبي بين 21-22 شباط 2023، برعاية سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك، وشاركت فيه سيدات فاعلات من مختلف أنحاء العالم.
هذه الورقة ستكون آخر مساهمة لي في صفحة "من زاوية أخرى"، التي رافقت همومنا وتطلعاتنا، لأن الموقع قرر إغلاق هذه الصفحة، من ضمن الاتجاه العام في التحوّل من الصحافة الورقية المكتوبة الى الرقمية، ثم الى البصرية.
وسوف نفتقد بحسرة هذه المساحة الحرة التي ضمّت نخبة من الأقلام العربية التي كتبت فيها بحرية تامة (مفتقدة في معظم الإعلام العربي، إن لم يكن كله) ومن دون قيود أو رقابة من أي نوع، وحتى في نقد سياسات مرجعيات الحرة نفسها؛ شرط احترام الدقة والموضوعية والاستناد الى مصادر موثوقة. والأسف على إغلاقها يعود إلى حاجتنا الماسّة لهذه الأقلام الحرة في هذ اللحظات المصيرية التي تواجهها المجتمعات العربية.