النهار

"المثلية الاجتماعية" تطارد المثلية الجنسية
المصدر: "النهار"
"المثلية الاجتماعية" تطارد المثلية الجنسية
من التظاهرات الداعمة للمثليين.
A+   A-

غسان صليبي

لمناسبة اليوم العالمي لمناهضة رهاب المثلية الجنسية والتحول الجنسي، في أيار 2017، نجحت "هيئة علماء المسلمين"، تحت شعار "مكافحة الرذيلة"، في منع المؤتمر، الذي كانت تنوي عقده جمعية "براود ليبانون". فقد رضخ الفندق المستضيف، ومن ورائه الدولة، للتهديد الذي مارسته الهيئة، ورفض استقبال المؤتمر.

في آب 2019 مُنعت فرقة "مشروع ليلى" من عرض حفلتها الموسيقية في مهرجان جبيل نتيجة التهديدات التي تلقاها منظمو المهرجان. وتراوحت الاعتراضات على "مشروع ليلى"، بين اتهامه بالإساءة إلى المقدسات المسيحية في أغنياته، وانتقاد مثلية أعضاء الفرقة و"عبادتهم للشيطان".

منذ يومين أصدر وزير الداخلية والبلديّات في حكومة تصريف الأعمال القاضي بسّام المولوي بيانًا حمل صفة "عاجل جدًّا"، دعا إلى منع التجمّعات التي "تروّج للشذوذ الجنسي" بعد اتّصالات تلقّاها من مراجع دينيّة، وفق بيانه. أتى كتاب المولوي بعد الإعلان عن عرض مجموعة أفلام وإقامة ندوات مرتبطة بمجتمع الـ"ميم عين" بالتزامن مع "شهر الفخر" العالمي، أي شهر حزيران. وأثارت الخطوة جدالًا على مواقع التواصل الإجتماعي وخصوصًا بعدما عمدت مجموعة تطلق على نفسها اسم "جنود الرب" إلى إزالة لوحة إعلانية في منطقة الأشرفية تحمل ألوان قوس القزح وهي ألوان المثلية الجنسية.


تزامناً، صرح مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان أن "دار الفتوى لن تسمح بتشريع المثلية الجنسية، ولا بتمرير مشروع الزواج المدني المخالف للدين الإسلامي ولكل الشرائع، ويخالف أيضاً أحكام الدستور اللبناني في ما يتعلق بوجوب احترام قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الدينية العائدة إلى اللبنانيين في المادة التاسعة منه، هذه ثوابت دار الفتوى والمسلمين جميعاً في لبنان".

كما أشار متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده في عظة الأحد التي كرّس معظمها لموضوع المثلية الجنسية، إلى "لقاءات تروّج للمثلية" في لبنان، مؤكّداً أن "الكتاب المقدس يعلن بوضوح أن الذكر هو المكمل الوحيد للأنثى في الحب، والزواج، والاتحاد المبارك من أجل المشاركة في فعل الخلق عبر الإنجاب، والأنثى وحدها مكملة للذكر". وأضاف أن "السلوك المثلي في الكتاب

المقدس لا يباركه الله بل يحظره بوضوح، مستشهداً بما جاء في سفر اللاويين وبأقوال الرسول بولس".

بدوره شدد المفتي الجعفري الشيخ أحمد قبلان في خطبة له على أن "الشذوذ الجنسي مرفوض بشدة، ولن نقبل به أبداً ولن يتحقق في لبنان، والخطير أن بعض القرارات القضائية تعمل على تأسيس حماية قضائية لأسوأ طاعون أخلاقي".

المفارقة الفاقعة، أن مجتمعنا، هو "مثلي" حتى العظم. معظمنا في هذا البلد، يلتف حول من يعتقد أنه مثله: العائلة أو العشيرة أو المذهب أو الطائفة... ويقف في مواجهة، عنيفة في الكثير من الأحيان، مع من يعتقد أنه ليس مثله. من الملاحظ، في بلدان العالم، انه كلما تفككت هذه "المثلية الاجتماعية"، المبنية على علاقات القرابة والدين، وأعطت مكانها لأشكال متنوعة وحديثة، من التفاعل والتضامن الاجتماعي، أصبحت المثلية الجنسية مقبولة أكثر. في تصريح المفتي دريان أعلاه، تمسك بهذه "المثلية الاجتماعية" من خلال رفضه للزواج المدني ومطالبته بوجوب احترام قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الدينية. لعل هذا العداء بين "المثلية الاجتماعية" والمثلية الجنسية، هو من العوامل التي تفسر جانباً من التواطؤ

السياسي- الديني في رفض ظاهرة المثلية، ما يساعد في نشر رهاب المثلية في أوساط المجتمع. وكان وزير الداخلية صريحاً في القول إن قراره جاء بعد اتصالات تلقاها من مراجع دينية، غير مبالٍ بإستقلالية السلطة السياسية عن السلطة الدينية في الدستور اللبناني.

لماذا تُعتبر المثلية الجنسية شذوذاً ولا تُعتبر "المثلية الاجتماعية" أيضا شذوذاً عن الطبيعة الإنسانية التي لا تميّز بين الناس في تكوينهم الجسدي والروحي، على أساس المذهب والطائفة؟ لماذا نتقبل هذه، ونروّج لها، ولماذا نضطهد تلك؟

استرعى انتباه البعض أن وزير الداخلية "لم يدعُ إلى توقيف من يمنع رغيف الخبز عن المواطن، ولا إلى توقيف مطلوب في قضية تفجير 4 آب، ولا إلى إلقاء القبض على عصابات السرقة والتشليح والكبتاغون"، بل صبّ جام غضبه على المثليين، كأنها محاولة من السلطة لتحويل غضب المواطنين من الأوضاع السائدة في اتجاه المثليين.

كنت قد أشرت في مقال سابق عن "مشروع ليلى" إلى أن المنع الذي حصل للحفلة الموسيقية "يواكب تنامي القلق والخوف عند اللبنانيين، من الأوضاع العامة السيئة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، التي قد تؤول في حدها الأقصى، إلى انهيار مالي أو انخراط في حرب دولية إقليمية، في ظل تقاعس

المسؤولين عن القيام بمسؤولياتهم، لا بل مساهمتهم الفعلية في تفاقم الأوضاع.

لا يمكن فهم "مشروع ليلى" إلا كحالة شبابية إعتراضية تحاول أن تفتش عن معنى لحياتها، من خلال الكلمة والموسيقى والسلوك الفردي، في ظل هذا الاضطراب الوطني العام.

لعلّ رد الفعل الديني والسياسي الرسمي، على هذه المحاولة الشبابية "النقدية" للأوضاع العامة، هو تعبير صارخ عن ضيق صدرها بأي حالة إعتراضية، خاصة شبابية، على الوضع الذي تتحمل مسؤوليته السلطتان المتحالفتان، السياسية والدينية. وأتى انطلاق الانتفاضة بعد شهرين فقط من المقال وصولاً إلى الانهيار الذي أصابنا اليوم ليعطي شيئاً من الصدقية لهذه التوقعات والتحليلات.

لكن التصعيد الديني - السياسي اليوم ضد المثلية الجنسية، لا يُفهم فقط على ضوء الأوضاع السائدة، بل أيضا كرد فعل على توسع نشاط المجموعات المثلية واتساع هامش الحرية لهذا

النشاط في الواقع اللبناني الذي بدا كأنه أصبح أكثر تسامحاً مع الظاهرة. ما يفسر لجوء مجموعات المثليين إلى الهجوم المضاد من خلال الدعوة إلى التظاهر أمام وزارة الداخلية دفاعاً عن مكتسباتها (تراجعوا عن الدعوة لاحقاً)، وصدور مواقف شعبية ونيابية مستنكرة لقرار الوزير.

يفتقر هذا القرار لأي سند قانوني، وينطوي على انتهاك صارخ لشرعة حقوق الإنسان التي يلتزمها لبنان دون تحفظات. وهو يخالف مضمون المادتين الثامنة والثالثة عشرة من الدستور اللبناني الذي صان حق الأفراد وحريتهم في التعبير وإبداء الرأي فضلاً عن حريّة الاجتماع. ولا يحقّ لوزارة الداخلية، وعلى رأسها الوزير، منع أي تجمعات بحجة مخالفتها للآداب العامة، بل الأمر محصور بإشارة قضائية. وقد أثبت القضاء اللبناني مرارًا في محاكماته أن المثلية هي حرية شخصية ولا يمكن معاقبة المثليين عليها كما حصل في بعض المحاكمات بين 2007 و2021.

أما الخطاب الديني الرسمي فليس فكراً يقبل المحاججة، بل هو "الحقيقة المطلقة" التي لا تحتمل حواراً أو اجتهاداً. الصراع الأبدي بين الخطاب الديني الرسمي وحرية التعبير، مردّه إلى أن

الخطاب الديني ينطلق من "حقائق مطلقة"، في حين أن حرية التعبير هي بحد ذاتها الطريق الوحيد للتفتيش عن الحقائق، النسبية والمتغيرة بالضرورة. فقد تغيّر موقف العلم من المثلية الجنسية بعد إعتبارها "شذوذاً" أو "مرضاً نفسياً - جسدياً"، أصبح يُنظر إليها علمياً كميول جنسية طبيعية عند بعض البشر. وصادقت منظمة الصحة العالمية على هذا التوصيف، كما واكبت التشريعات الدولية والمحلية هذا التطور من خلال الإعتراف بحقوق المثليين. إذاً أصبح بالإمكان إثبات "طبيعية" السلوك الجنسي المثلي، في حين أن "طبيعية السلوك الاجتماعي المثلي" مشكوك فيها إلى ابعد حد في نظر العلوم الاجتماعية التي تؤكد "طبيعتها الاجتماعية" البحتة، إضافة إلى مضارّها على المستويات الفردية والجماعية والوطنية.

لا بد من لفت انتباه الرأي العام اللبناني والمسيحي خصوصاً، لا سيما لمناسبة زيارة البابا في أقرب وقت إلى لبنان، إلى أن الكنيسة الكاثوليكية نفسها، مع البابا فرنسيس، أصبحت أكثر تقبلاً للمثلية الجنسية وللممارسات الجنسية خارج الزواج أو

خارج غرض الإنجاب. ولا أزال أذكر تصريح الكاهن الذي أطلق الحملة على "مشروع ليلى"، وألمح فيه إلى تقاعس وتراخٍ في المواقف من المقدسات، حتى على مستوى رأس الكنيسة. فهل سنستقبل البابا عندما يزورنا، بالورود أم بالحجارة؟

يبقى هذا السؤال الجوهري عن سبب إنزعاج مناصري "المثلية الاجتماعية"، إلى هذا الحد، من المثليين جنسياً. فما هي هذه "الخطيئة" الكبرى التى يرتكبونها، من خلال ممارستهم لمثليتهم، بحب وسلام؟ لماذا يواجهونهم بهذين الحقد والغضب؟

يقول البعض إن هذا الغضب الشديد مرده مخالفة المثلية لتعاليم الله. لكن لماذا لا يكون الغضب بهذه الحدة عندما يتعلق الأمر بممارسة الجنس خارج إطار الزواج والتي تخالف تعاليم الله أيضاً؟ هل لأن ذلك هو لصالح الرجل بشكل عام ويحافظ على مؤسسة الزواج من الانهيار؟ يلاحظ علم النفس أيضاً أن الأكثر تعصباً ضد المثليين جنسياً، هم الذين لديهم ميول مثلية

لاواعية. مع قبولي بهذه الفرضيات، يبدو لي أن المسألة أشمل وأعمق من ذلك.

أعتقد أن المثلي، يحرر الرغبة من عقيدة التخصص، واللذة من وظيفة الإنجاب، والحب من قوالب الزواج.

فهل أن هذا الثلاثي، الرغبة واللذة والحب، الذي لعب دوراً تاريخياً، في تحرير الثلاثي الآخر، الجنس والزواج والعائلة، من الإكراه والكبت والنفاق، هو ما يخيف حتى الرعب، حراس "المثلية الاجتماعية" وسجناءها؟

حرية الرغبة واللذة والحب، ومن خلالها الحرية الشخصية، هي التحديات الكبرى، التي يرفعها المثليون، بوجه "المثلية الاجتماعية"، بالكثير من الشجاعة والإقدام والتضحيات.

 

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium