الدكتور ناصر زيدان
يُحيط الغموض الاستراتيجي بسياسة كل من تركيا وإيران في مناطق شمال العراق وشمال سوريا، ولكل من البلدين طموحات جيوسياسية وأمنية تختلف عن الأخرى، لكن أهدافهما تتلاقى على تقويض سيادة كل من العراق وسوريا في تلك المناطق، وصولاً لتحقيق تغييرات على خرائط الحدود التي تفصل بين دول المربع البركاني الأربع، وهي مساحات شهدت أحداثاً كبيرة عبر التاريخ الغابر، ولا سيما منها الصراعات بين صفويي بلاد فارس وطورانيي السلطنة العثمانية.
اندفاعة تركيا المتجددة باتجاه توفير ظروف مناسبة للانقضاض على اتفاقية لوزان لعام 1923 بعد مرور مئة عام على توقيعها؛ لا تعني أنها الوحيدة التي تطمح لفرض تغييرات على خريطة المنطقة، فإيران بالغت في الانفلاش الأمني والديموغرافي في تلك البقعة العربية الحساسة، وهي تستخدم طريقة التغلغل الميداني عبر ميليشياتها المتنوّعة، وتبيّن أنها تمدّ خيوطاً متينة مع حزب العمال الكرستاني pkk في المناطق القريبة من الحدود مع تركيا في شمال سوريا والعراق، بينما تُناصبه العداء في المناطق الكردية داخل إيران وعلى مساحة الحدود التي تفصلها عن إقليم كردستان.
بعض فصائل الحشد الشعبي الموالية لإيران في العراق، ولا سيما عصائب أهل الحق وحزب الله العراقي، تتقاسم الأدوار مع حزب العمال الكردستاني في مدينة سنجار معقل الأقلية الأيزيدية ومحيطها في الشمال، وتقول المعلومات إنهم يتعاونون لتحقيق مكاسب مالية من جراء عمليات التهريب التي تمر عبر هذه المنطقة الى تركيا والى سوريا ومنها الى لبنان. وإيران لديها خطط واضحة لتوسيع نفوذها في تلك البقعة، لتوفير أوراق ضغط يمكنها استخدامها ضد تركيا، من دون أن تعلن حالة النزاع معها، كما أنها توظِّف وجودها الأمني للمناكفة مع القواعد العسكرية الأميركية في الأنبار وأربيل العراقيتين، وفي شرق الفرات في شمال سوريا.
أما تركيا؛ فلديها طموحات استراتيجية أكثر شمولية، وهي تتحيّن الفرص لإعادة تطبيق حدود "الميثاق الملّي" وهذا الميثاق الذي طوت حدوده اتفاقية سيفر لعام 1920 واتفاقية لوزان لعام 1923، اللتان وقعتهما تركيا مع الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، مقابل اعتراف هذه الدول باستقلال تركيا كجمهورية علمانية؛ يعتبر كركوك والموصل ومناطق شمال سوريا من ضمن الجغرافيا التركية. ووزير داخلية تركيا سليمان صويلو لم يخفِ نوايا بلاده التوسعية في شمال سوريا، عندما قال: إن غالبية اللاجئين السوريين في تركيا، ينتمون الى مناطق تركية قديمة كانت تقع ضمن "الميثاق الملّي".
والرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يعاني من صعوبات داخلية؛ يحتاج لورقة رابحة يلعبها قبل موعد الانتخابات التي ستجري صيف عام 2023، ومن المؤكد أنه قرر استخدام ورقة النازحين السوريين لسحبها من يد معارضيه، ولتوظيفها في معركته الانتخابية، من خلال دخول شريط حدودي في عمق الأراضي السورية، يمتد على طول الحدود، بحجة إبعاد قوات حماية الشعب الكردي "قسد" وإرهابيي pkk كما يقول، وهو ينوي بناء مجمعات سكنية شعبية داخل هذا الشريط، تؤوي مليون نازح سوري منتشرين في المدن التركية، وتستغل المعارضة وجودهم ضد أردوغان، بحجة منافسة اليد العاملة التركية.
قمة طهران الثلاثية التي عُقدت في 19 تموز بين رئيس روسيا فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان بضيافة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي؛ خصّصت جلساتها لمناقشة الملف السوري كما أعلن المشاركون، لكن المراقبين لم يفهموا شيئاً من البيان الختامي الذي صدر عن القمّة، من جراء الغموض الذي صيغت به عبارات البيان، وهي عبارة عن عناوين عامة أكدت وحدة الأراضي السورية، وضرورة تحقيق المصالحة، بينما أطراف القمة هم أنفسهم مَن يهدّد وحدة هذه الأراضي، ولو أنهم اتفقوا على تحقيق المصالحة بين فئات الشعب السوري، لكانوا فرضوا على الحكومة القبول بمسار أستانة الذي أشار الى ضرورة تعديل الدستور كمدخل إلزامي للحل.
الخشية قائمة من أن تكون خفايا قمة طهران أشد إيلاماً من المُعلن منها، وقد يكون تنظيم الخلاف وتوزيع المغانم بين الأطراف الثلاثة؛ هو الهدف من القمة وليس حل الأزمة، ذلك أن تعارض المصالح بين الدول الثلاث الكبرى واضح للعيان، ولكل منهم أهداف مختلفة عن الأخرى في سوريا، وفي شمال العراق. وقد تأكد ذلك من ردود الفعل على الغارة التركية الأخيرة على موقع مدني في محافظة دهوك شمال العراق، وهي أدّت إلى مقتل 9 مدنيين وجرحت 22 آخرين، وقد استنكرتها طهران، واحتجّت عليها بغداد، بينما تبرّأت تركيا من فعلتها، ناسبةً العمل لمقاتلي حزب العمال الكردستاني.
الغموض الاستراتيجي سيد الموقف في شمال العراق وشمال سوريا، والأطماع الامبراطورية تطلُّ برأسها من أروقة قاعات القمم العلنية. روسيا وإيران ضد العملية التركية المزمع تنفيذها في شمال سوريا، وتركيا وروسيا تنظمان عملية دولية كبيرة تتعلق بتسهيل تصدير القمح الأوكراني، والتنسيق على أشدّه بين قوات "قسد" الموالية للأميركيين وقوات الحكومة السورية، بينما تساعد إيران قوات الحكومة السورية وميليشيا pkk، وتتفرج روسيا على المسرحية الاستعمارية الجديدة ببرودة من دون أن تختلف مع أيّ من القوتين المتنافستين.