كأن الحياة في لبنان صغيرة على الفرح، على الحبّ، على الأحلام، وتستكثر علينا حتى صباحاً واحداً روتينيّاً، بفنجان قهوة وسيجارة على أنغام فيروز، بلا كهرباء "مش مهمّ"... وبراتب انتهى من منتصف الشهر، والتفكير بتزاحم المسؤوليات.
نستيقظ في لبنان بشكل متأهّب كالذاهب إلى الحرب حاملاً الأعتدة... خبر وفاة بإطلاق نار من هنا، حادث سير من هناك، خطف، اغتصاب، تحرّش، هذا عدا "المفاجآت" المعدّة لنا في جعب السياسيين بمناسبة وبلا مناسبة.
مثلي مثل كثيرين، غارقون في أفكارنا، نسبح في حزن كبير، نتحاشى لحظة الانطفاء، كلّما طالعنا خبر موت أحدهم. وكأنّها المرّة الأولى والأخيرة التي يموت فيها أحدٌ. نستذكر شريط الحياة، نؤنّب أنفسنا على عدم الجلوس الوقت الكافي مع مَن نحبّ، نفكّر في ما وضعنا في حقيبة هذه الحياة، ونتأهّب للّذي لا بدّ منّه. نخاف أن تسلبنا الحقيقة التي نتعايش معها فقط من أجل الحياة، وكم غربية هذه المفارقة! فالموت الحقيقة الحتميّة، وكل ما عدا ذلك زائف.
هو ليس وحده، بل أحد الأسئلة التي لا أجوبة عنها في الحياة. ولعلّ ما يرهقنا فيه عدم معرفة أقلّه لماذا الآن؟ ولماذا بهذه الطريقة؟
نعم، "كلّ نفسٍ ذائقة الموت"، لكنّ الأمور ليست بهذه البساطة بانتظار هذا الضيف الثقيل.
جورج الراسي وزينة المرعبي ليسا أوّل ضحيّتين، وحتماً ليسا الأخيرتين، فمسلسل الرّعب على طرقات لبنان يتصدّر، وبشكل دائم، شبابيك التذاكر إلى مكان من المؤكّد أنّه أفضل ممّا نحن فيه.
ربّما خطّط جورج لوجبة فطوره المفضّلة، وحضّر مشروع عطلة نهاية الأسبوع، وتكلّم كثيراً خلال طريق العودة على مدى فرحه بأجواء الحفلة في سوريا - قبل وفاته بساعتين - وتفاعل الجمهور. ربّما أرسل إلى أحدهم أنّه سيصل، مسافة الطريق فقط!
أعاد الحادث إلى ذاكرتي وفاة عصام بريدي، وشبّان وشابّات ممّن دُفنت أحلامهم على طرق الموت، ولا يتسّع هذا النّص لذكر أسمائهم.
اليوم، غنّى جورج الراسي آخر مقاطع أغانيه، وكان موعده مع "الألبوم الأخير" في مسلسل حياته القصيرة، التي انتهت بغياب "مجنونٍ" كالحبّ الذي غنّى له.
الموت لا يُوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء!
هكذا وصف الموت الشاعر الكبير محمود درويش.
وداعاً جورج الراسي...