تسيل الأهميّة الاستراتيجية التي اكتسبتها القارة الأفريقية في السنوات القليلة الماضية لعاب عدد من القوى العالميّة ولا سيما الصين والولايات المتحدة الأميركية وروسيا، وباتت الكعكة الجيو-استراتيجة التي تريد أن تتقاسمها كل من واشنطن وبيجينغ وموسكو لحجز موطئ قدم لها بما يحقق مصالحها ويفتح لها آفاقاً لتحقيق أكبر قدر من المكاسب.
وتكتسب القارة الأفريقية بعداً استراتيجياً متزايداً في السنوات القليلة الماضية على الرغم من التهميش والإبعاد والتنكيل الذي عانت منه في العقود السابقة، ولا سيما بعد رحيل أو دحر الاستعمار الأوروبي الذي بدأ في منتصف القرن الماضي واستمر حتى أواخره.
لكن فهم قصة الاهتمام الدولي المتزايد بهذه القارة يتطلّب العودة إلى الوراء سنوات ليست ببعيدة، وتحديداً في شباط/فبراير من عام 2007، حيث خرج الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الابن بإعلان مفاده أن أفريقيا باتت، في تلك اللحظة، أكثر أهمية لواشنطن، وأنه لا بد من إنشاء مركز للقيادة المركزية العسكرية فيها بعدما ظلّت الشؤون الأفريقية، لعقود طويلة، تتبع القيادة المركزية في أوروبا، فضلاً عن قيادتين أُخريين، واحدة في الولايات المتحدة نفسها والأخرى في المحيط الهادئ.
وفي ذلك الحين، وبعد مرور ثمانية أشهر على إعلان بوش الشهير، وتحديداً في الأول من شهر تشرين الأول/أكتوبر من عام 2007، أبصرت النور ما باتت معروفة اليوم باسم "أفريكوم" التي انقسمت إلى ثلاث قيادات فرعية تولت شؤون القارة الأفريقية كافة، باستثناء مصر التي تتبع القيادة المركزية في ولاية فلوريدا ومعها جزر متناثرة في المحيط الهندي على غرار جزر السيشل ومدغشقر وجزر القمر.
وقد حدّدت واشنطن دور القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا "أفريكوم" بتدريب الجيوش الأفريقية وجنودها وتسليحها ورعايتها. وهنا لا بد من التنويه بهذا الدور المتعلق بتدريب الجيوش، بالإضافة إلى أدوار أخرى على غرار رعاية المصالح الأميركية والإشراف على طرق النقل والتجارة، و"إبقاء عينها مفتوحة" على معادن نفيسة مثل اليورانيوم ومعادن كثيرة أخرى، فضلاً عن إعادة توزيع مناطق النفوذ والهيمنة وبسط السلطة، خصوصاً أنه حتى ذلك الوقت كانت فرنسا لا تزال خارجة ومتمرّدة على حلف شمال الأطلسي "الناتو"، فضلاً عن كون باريس الأكثر حضوراً في القارة السمراء.
واستطراداً لا بد من شرح قصة فرنسا حين غرّدت خارج "الناتو"، حيث خرجت باريس من حلف شمال الأطلسي عام 1966 قبل أن تعود إلى بيت الطاعة في عام 2009، إبّان تسلم مقاليد الحكم في فرنسا من قبل الرئيس وقتذاك نيكولا ساركوزي المعروف بقربه من واشنطن؛ ولذا مع ولادة "أفريكوم" كانت فرنسا لا تزال تحاول التمرّد على أميركا، وكان لا بدّ لواشنطن من الإمساك بزمام القارة السمراء، ولذا زجّت بثقلها بالقارة، إذ لم يقتصر الأمر على الجنود والأسلحة فحسب، بل توسّع ليشمل الاستخبارات والدعم المالي والتمويل والتخطيط ووضع الاستراتيجيات.
وقد عمدت واشنطن، منذ البداية، إلى الإطاحة بالدور والوجود الفرنسي في أفريقيا، وما كان يخرج من التصريحات الأميركية إلى العلن حينها كان يشبه المثل القائل بأن ما وراء الأكمة ما وراءها، إذ ما كان معلناً حينها إنما يتسق بتنامي الحركات الإرهابية في القارة، التي سبق لها أن استهدفت سفارتَي واشنطن في كل من كينيا وتنزانيا، فضلاً عما كانت تشهده حينها كل من الصومال والسودان من فوضى، لا بل ما هو أكثر من ذلك إذ تزامنت تلك الأحداث مع إعلان واشنطن إبان حكم إدارة بوش الابن عن "شرق أوسط جديد" ما قاد إلى اتباع استراتيجية جديدة لدول شمال أفريقيا، حيث المنطقة العربية.
ومن باب التذكير فقط، وبعد أربع سنوات من ولادة "أفريكوم" اندلعت أحداث سُمّيت آنذاك "الربيع العربي" وشهدت بعض دولها تدخلاً عسكرياً أميركياً.
لكن بالعودة إلى الاستراتيجية الأميركية التي اتبعت في القارة السمراء، فقد أضافت إليها واشنطن بعض "التطعيمات" ومستلزمات "التنكيه والمطيّبات" التي بات يعلمها الجميع، عازيةً ومعللةً وجودها في القارة لدعم الحريات والديموقراطيات وحقوق الإنسان وهي عناوين فضفاضة تستلزم تأمّلاً طويلاً، إذ منذ ولادة "أفريكوم" شهدت القارة 11 انقلاباً عسكرياً، ولإضافة مزيد من التشويق على هذا الرقم المخيف والمقلق، يتّضح أن الجيوش كافة التي نفذت تلك الانقلابات تلقّت تدريباتٍ وتسليحاً ودعماً أميركياً قبل الانقلاب وبعده.
ولعلّ المثال الصارخ على أحدث هذه الانقلابات تمثّل بما حدث في النيجر، حيث خرجت مجموعة من الضبّاط النيجريين ليعلنوا عزلهم الرئيس المنتخب محمد بازوم، وهو رجل فرنسا في نيامي، كما أعلن عن عدد من الإجراءات كتعليق نشاطات الأحزاب، والحياة السياسية، وإغلاق الحدود، وحلّ المؤسسات الديموقراطية وسواها من الأمور، فضلاً عن تشكيل مجلس عسكري يرأسه عبد الرحمن تياني الذي تولى مهام رئاسة الدولة وتمثيلها في الخارج، ذلك أن معظم من قام بالانقلاب عسكريون من الحرس الرئاسي الذي تتولى القوات الأميركية تدريبه، والذي يقوده تياني منذ عام 2011.
والجدير ذكره أنه سبق لواشنطن أن أعلنت تقديمها لعسكر النيجر، منذ عام 2012، ما يناهز 500 مليون دولار أميركي، فضلاً عن انتشار قوات أميركية خاصة عقب مقتل أربعة جنود أميركيين في عام 2017 إثر كمين محكم هناك. ويضاف إلى ذلك كلّه استضافة النيجر في مدينة أغادير شمال البلاد أكبر قاعدة للطائرات المسيّرة الأميركية التي تُعدّ الأكثر تكلفة في أفريقيا بقيمة 110 ملايين دولار أميركي وذات ميزانية سنوية تراوح بين 20 إلى 30 مليون دولار أميركي، ما يعني باختصار أن كل ما هو متعلق بالشؤون العسكرية في النيجر يخضع لرقابة مُحكمة للأميركيين بمن فيها من انقلب على الرئيس بازوم المدعوم فرنسياً.
صحيح أن واشنطن سارعت إلى إدانة الانقلاب، مع إعلانها تعليق مساعداتها للنيجر، لكن هل يمكن لعاقل تبرئة أميركا من الانقلابات في ظل توافر كل هذه المعطيات، خصوصاً إذا ما ضربنا مثالاً من خارج القارة الأفريقية يفضح العلاقة الوثيقة بين الانقلاب وكلمة السر الأميركية، حيث دعمت واشنطن في عام 2019، بشكل شبه علني، إطاحة الجيش البوليفي رئيس بوليفيا المنتخب وقتذاك إيفو موراليس، لا بل ذهبت أبعد من ذلك عبر دعمها غالبية الانقلابات التي شهدتها قارة أميركا الجنوبية والوسطى، وخصوصاً تلك التي تطيح بالمناوئين للولايات المتحدة.
وبالعودة إلى القارة السمراء التي شهدت 11 انقلاباً تحت أعين الأميركيين سنذكرها في عجالة: بوركينا فاسو أعوام 2014، و2015، و2022، وفي غامبيا عام 2014، وفي غينيا عام 2021، وفي مالي أعوام 2012، 2020، و2021، وفي موريتانيا عام 2008.
ولعلّ ما تقدّم يقودنا إلى طرح السؤال التالي: ما الرابط بين جميع هذه الانقلابات؟
تشير المعلومات والمعطيات إلى أن جميع هذه الجيوش التي نفذت هذه الانقلابات كلها تدربت على أيدي الأميركيين وفي قواعدهم العسكرية، واللافت أن غالبية هذه الانقلاب كانت ضد النفوذ الفرنسي، ولكن أحداً لم يقترب من النفوذ الأميركي.
بيد أن دخول روسيا، اللاعب الجديد إلى الساحة الأفريقية، أحدث إرباكاً للنفوذين الأميركي المتعاظم والفرنسي المتهالك، وليس معلوماً بعد لدى كلا الطرفين ما حجم التغوّل الذي حققته موسكو في القارة أم تمثّل ورقة صريحة لطرد فرنسا نهائياً من القارة والاستيلاء على مقعدها إذا جاز التعبير؟ لننتظر ونرَ.
مما لا ريب فيه، أن رحلة الانقلابات في القارة السمراء مستمرة وفي خواتيمها ستتجلى هوية المستفيدين والخاسرين، لكن حتى الآن، ووفق ما تظهره المعطيات الميدانية والعملانية فإن الأميركيين والروس حصلوا على موطئ قدم في القارة التي تترقب الدخول الصيني أيضاً، لكن من باب الاقتصاد والمشاريع الاستثمارية، إلا أنها، أي القارة الأفريقية، لم تعد الحديقة الخلفية لفرنسا التي حكمتها لسنوات مديدة.