اعتاد الأكبر والأقوى، منذ فجر البشرية، أن يحصل على ما يريد، وأن يفرض إرادته على الأقلّ حظاً واقتداراًً... وكذلك حال الأمم.
العدالة المنحازة
هذه هي حالنا اليوم، بعد قرون من عصور الظلام، وإشراقة الحضارة الإنسانية؛ وبعد قرن استنزفته الحروب العظمى والصغرى، الساخنة والباردة، حتى كاد يفنى فيه النّاس، وتهدم بنية معيشتهم، ومقوّمات حياتهم؛ وبعد قيام منظمات ومؤسّسات أممية، مهمتها الأجلّ ترسيخ القيم والقوانين التي تصلح ما سقط من مبادئ وأخلاق، وتُعلي ما يليق بالحضارة الجديدة، وتضمن عدم تكرار الحروب العالمية، وأن تحلّ الصراعات من خلال آليات النظام الجديد.
العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات كانت على رأس القيم المستهدفة. ولكن النخب الحاكمة حرصت على تحريفها وتأويلها، حتى وصلت إلى ما توقعه الكاتب جورج أورويل في روايته الشهيرة "مزرعة الحيوان" (كل الحيوانات متساوية... إلا أن بعضها أكثر مساواة من الآخر). وهكذا تحوّل مجلس الأمن إلى ديوان حكم، والأمم المتحدة إلى ملهاة، والمحاكم الدولية إلى أداة، وقِسْ على ذلك كل الاتفاقيات والجمعيات والقوانين.
يقظة الملوّنين
الولايات المتحدة الأميركية، وريثة الاستعمار الأبيض، والإمبريالية الشقراء، مثال على هذه الحقيقة المرة. فقد تحوّلت من منارة للحرية والعدالة والرخاء، في النصف الأول من القرن العشرين، إلى قطب حاكم على نصف الكرة الأرضية، في ما تبقى من الألفية الأولى. أما في الألفية الثانية، فقد أصبحت القطب الأوحد، والحاكم الأقوى، والمرجعية النهائية للقيم الإنسانية على مبدأ فرعون (لا أريكم إلا ما أرى).
لحسن حظ العالم أن قطباً جديداً تشكّل في الشرق. فعصب الاقتدار، المال والسلاح والتقنية، لم يعد حكراً على أميركا وحلفائها. فبقيام الصين، وصحوة الهند، وتمرّد روسيا، أتيحت خيارات ومنارات بديلة. وكأنما العالم شئم تسلّط السيد الأبيض وتعاليه وفرض أسلوب حياته على الجميع، فنزح إلى حيث الكلأ والماء، بغير منّة ولا أذى. فقامت أحلاف ومنظمات بديلة، وتوجّه الصغار إلى التكتلات الاقتصادية المحايدة، ووازنوا شراكاتهم ومصالحهم بما يخدم شعوبهم أولاً وأخيراً.
سقوط القادة
يقول زعيم أفريقي: "يأتينا الصيني بمطار، ويأتينا الأميركي بمحاضرة". ومع تفشّي الانحراف الخلقيّ في الغرب، خاصّة "البروتستانيّ"، ربما نتيجة لغياب المرجعية الدينية الموحّدة، كما في الأديان الأخرى، ومحاولة فرض العقيدة الجديدة على بقية الثقافات والأديان؛ ومع تنامي الدين العام وخلل النظام المالي، وتناقص الإنتاجية والإبداع والهيمنة السياسية والاقتصادية، بات واضحاً أن ملك الغابة لم يعد متحكّما بعرشه، وأن الهدير والتنمّر محاولة هشّة ومكشوفة لاستعادة الهيبة، وتخويف الرعية، وتحدّي الخصوم. ومع فضائح وسقطات القادة وهبوط أخلاقيات السياسات والساسة، بات واضحاً للمراقبين أن قيادة "العالم الحرّ" بلا قيادة.
عرب الانحياز
أين يقع العرب في هذا المشهد الجديد؟ هذا هو السؤال الذي طرحته قمّة الأمن والتنمية في جدة، مارس 2023، وأجابت عنه بحزم ووضوح: الحياد الإيجابي، الكسب المتبادل، المصالح القومية أولاً. ولكن هل كانت هذه المرّة الأولى التي تعلن فيها هذه المبادئ؟ وهل نجحت في المرات السّابقة؟ وما الذي يضمن نجاحها هذه المرّة؟
الجواب لا للسؤال الأول. فقد أعلنت الدول العربية هذا الموقف في مرحلة التحرّر من الاستعمار، وعند قيام الجامعة العربية، وبعد قيام حركة عدم الانحياز. وحتى يومنا هذا، لا تقرّ معظمها بالتخلّي عن هذه المبادئ. ولكن الواقع المرّ أننا اضطررنا في مرحلة الحرب الباردة إلى الاختيار بين معسكري الشرق والغرب، وتنازلنا بالنتيجة عن حيادنا الإيجابي، وضعفت قدرتنا على التفاوض لتعظيم المصالح في كل صفقة وشراكة. ولعلّ بعضنا انجرف أكثر في الانتماء إلى الحلف الذي اختاره، ومعاداة الحلف المقابل.
بين شرق وغرب
وهكذا تقسّمت أمتنا بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي، وتخاصمنا على خصومات مَن حالفنا. وفشلت أهدافنا لتحقيق الوحدة السياسية، والسوق المشتركة والعملة الموحّدة والدفاع القومي. وحتى بعد انهيار حصون الشيوعية والاشتراكية الأممية وتخلّي أصحابها عنها، وبعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، وتبنّي روسيا الاتحادية الديمقراطية والعقيدة الاقتصادية الغربية وانخراطها في المنظومة المالية الرأسمالية، لا يزال بعضنا يدين بالولاء للكرملين.
كما لا يزال هناك من يحافظ على ولائه لواشنطن، ويتباعد عن خصومها، ويلتزم بخطها، بالرغم من تهاوي القطبية الواحدة والمنظومة الأممية التقليديّة، بنشوء تكتّلات ومنظّمات جديدة، واعدة، كـ"بريكس" و "شانغهاي" و"آسيان".
تبدّلات العرب
إلا أن ذلك كلّه قابل للتبدّل، فالمصالح الوطنيّة تحكم المسار، في نهاية المطاف. وأداء الأقطاب والتحالفات العظمى وعروضها السياسية والاقتصادية والأمنية سيحفّز التحوّلات الجديدة.
كذلك سيسهم في تدعيم الرغبة والقدرة على التحوّل انطلاقة قطار الأمن والتنمية الذي تقوده السعودية، ويتجلّى في محطات لافتة كالمصالحة مع إيران، والاتفاقيات الاستراتيجية مع تركيا، وعودة سوريا إلى الجامعة العربية، ومسار السلام في اليمن، والاستثمارات الخليجية السيادية والخاصّة في دول الإقليم، والمبادرات البيئية كمبادرة الشرق الأوسط الأخضر.
تحوّلات المغاربة
والمغرب العربي ليس ببعيد عن هذه التحوّلات، وإن كان "الرتم" أبطأ، وربما في الاتجاه المعاكس. فمملكة المغرب توثق علاقاتها أكثر بالولايات المتحدة وإسرائيل ودول أوروبا، بالرغم من خلافاتها الديبلوماسية الطارئة مع إسبانيا. وجمهورية الجزائر، في المقابل، توثّق علاقاتها أكثر مع روسيا، خاصّة في الجانب العسكري، مع تحسّن ملموس في علاقاتها مع أوروبا، خاصّة فرنسا.
وتبقى الجمهورية التونسية على مسارها الغربي، خاصّة بعد حصولها على اتفاق مع الولايات المتحدة يضعها تحت مظلّة الناتو. ولا تزال ليبيا منقسمة بين معسكر الشرق والغرب، بحسب انتماءات قادة الصراع الداخلي على السلطة القبليّة والمذهبيّة والدوليّة.
تحوّلات المشارقة
وفي المشرق العربي، انتقل العراق من المعسكر "الاشتراكي" إلى الرأسمالي مع الاحتلال الأميركي، ووقع تحت الهيمنة الإيرانية. وتقاسمت الهيمنة في دمشق إيران وروسيا، فيما توزّعت الأطراف بين تركيا وأميركا والجماعات الجهادية. وتقاسمت إيران والخليج التأثير في اليمن.
وبقيت دول الخليج على شراكتها الاستراتجية مع أميركا والغرب، مع نشوء شراكة استراتجية يغلب عليها الجانب الاقتصادي والتجاري مع الصين، والنفط والغاز مع روسيا. أمّا مصر ولبنان والسودان والصومال وجيبوتي فحافظت على علاقات مع كلّ الأقطاب، وإن مالت أكثر إلى الغرب.
المشهد الجديد
هذا هو ما استقرّ عليه المشهد اليوم، أما الغد فيعتمد على معطيات كثيرة، بعضها يمكن التنبؤ به مثل تزايد النمو والنفوذ الصيني في المنطقة العربية، وبعضه يصعب توقعه، كنتيجة الحرب الروسية - الأوكرانية، وتبدّلات السياسة الأميركية، والحالة الاقتصادية الاوروبية.
وفي كل الأحوال، فالأمل أن يتزايد الالتزام بالحياد الإيجابي، والتأكيد على حقوق السيادة وأولوية المصالح الوطنية، وتطوير التعاون العربي وتصفير الخلافات البينيّة، والمضي قدماً في مسيرة التنمية والأمن التي انطلقت في جدّة الربيع الماضي.
وماذا عمّا تريده أميركا من السعودية، وما تريده الرياض من واشنطن؟ هذا حديث نستبقيه للمساحة المقبلة.
* أستاذ بجامعة الفيصل
@KBATARFI