أشعلت حادثة الكحّالة، التي تبادل فيها مقاتلو ”حزب الله“ وشباب البلدة إطلاق النار وأدت لمقتل شخصين، الحس القبلي لدى مسيحيي لبنان، خصوصا أن الحادثة وقعت في غضون أسبوع على الموت الغامض للقيادي في ”حزب القوات اللبنانية“ الياس حصروني. وكتب نائب ”حزب الكتائب“ سامي الجميل تغريدة ألمح فيها لانتقال حزبه من العمل السياسي التقليدي الى الكياني الوجودي، وهو ما فسّره كثيرون على أنه تلميح لسعي الكتائب لحمل السلاح ومقاومة غطرسة ”حزب الله“، علماً أن الحزب أشار في بيانه أمس الى رفض التسلّح في مواجهة "حزب الله".
وسلاح ”حزب الله“ غير دستوري بأي شكل من الأشكال لأنه ينتقص من مبدأ العدالة بين المواطنين اللبنانيين، إذ هو يسمح لبعض اللبنانيين بحمل السلاح دون غيرهم. ويحاول الحزب تبرير شرعية سلاحه بالإصرار أن وجهة اطلاقه النار هي صوب الإسرائيليين حصراً، لكنه تبرير يحتمل التأويل، إذ يمكن للحزب استخدام سلاحه ضد أي خصم داخل لبنان يعلنه الحزب عميلاً للإسرائيليين، وهذه تهمة لا يتوانى الحزب عن استخدامها يوميا، بل أن التخوين يتلازم مع كل اطلالة إعلامية تقريبا لقادة ”حزب الله“، وهي تهمة طالت ناشطي ”ثورة ١٧ تشرين“، الذين اتهمهم ”حزب الله“ بالعمالة للسفارة الأميركية، وبتقاضي الأموال منها للتظاهر ونشر الفوضى لطعن ”المقاومة“ في الظهر. هذا يعني أن تبرير "حزب الله" لسلاحه، أي إسرائيل، هو عذر تقليدي معروف، استخدمه طغاة العرب لتبرير قمعهم شعوبهم على مدى القرن الماضي.
ما الحلّ اذا؟ وكيف يمكن مواجهة تسلّط ”حزب الله“ على اللبنانيين، وحمله السلاح في وجههم وعليهم، واتهامه لهم بالعمالة عند معارضتهم له؟
محاربة ميليشيا ”حزب الله“ بميليشيا معارضة له لا يجدي. من الناحية العسكرية، يتفوق ”حزب الله“ على كل خصومه اللبنانيين بما لا يقاس، فهو الى الجيش النظامي الذي يديره، والذي اكتسب خبرة قتالية في الحرب السورية، يمتلك جهازا استخباراتيا من الطراز الأول، ويخترق أجهزة استخبارات دولة لبنان ويسيطر عليها، ما يجعل متعذرا حتى على الجيش اللبناني التغلّب على ميليشيا ”حزب الله“.
وفي حال اندلاع مواجهة عسكرية بين ”حزب الله“ ولبنانيين آخرين، الأرجح من المسيحيين بسبب غياب أي قيادة سنية وتفادي الدروز تقليديا للمغامرات العسكرية غير المحسوبة، يمكن لـ"حزب الله" محو أي ميليشيا مسيحية في أسابيع.
في سيناريو الحرب المتخيّل، الأسلوب العسكري الوحيد الذي يمكن للمسيحيين إيذاء ”حزب الله“ فيه هو العمل السري المقاوم، على غرار الحرب التي خاضها ”حزب الله“ في التسعينات في وجه ”جيش لبنان الجنوبي“ الذي كان حليفا للإسرائيليين في جنوب لبنان، أي عمليات ”أضرب وأهرب“، وهي عمليات يمكنها أن ترهق ”حزب الله“ وقاعدته، لكنها مكلفة كثيرا على من يقوم بها، وعلى لبنان بشكل عام.
لا حلّ عسكري لميليشيا ”حزب الله“، لا بالجيش اللبناني، ولا بميليشيات مسيحية يمكن تحريكها غرائزيا باقناعها أن وجودها في خطر. الوجود المسيحي في خطر بسبب الحرب الأهلية الماضية وسيطرة ميليشيا على الدولة اليوم، أي أن بقاء المسيحيين في لبنان والمشرق يتطلب أمنا واستقرار وازدهارا اقتصاديا، وهذا متعذر بوجود ميليشيا ”حزب الله“، وكذلك بالانخراط في حرب أهلية ضدها.
الحلّ الوحيد المتاح للخروج من كابوس ”حكم حزب الله“ للبنان هو حلّ سياسي. طبعا الحزب يدرك ذلك فنراه يصوّر خصومه السياسيين أعداء عسكريين لحثّهم على خوض مغامرات عسكرية ضده يعرف أنه سيكسبها. كذلك يدرك ”حزب الله“ نقطة ضعفه: لا دستوريته.
لسبب ما، يتمسك الطغاة دائما بورقة تين دستورية لستر عورة ظلمهم، من صدام حسين والانتخابات التي فاز فيها بنسبة مئة في المئة، الى عائلة الأسد وانتخاباتها فوق الركام، ورئيس روسيا بوتين وتلاعبه بالدستور للاستمرار في الفوز في انتخابات مزيّفة. حتى إيران، التي يحكم حكامها بتفويض يخالونه الهيا، اسموا دولتهم ”جمهورية“ ويقيمون انتخابات شكلية دورية فيها، على الرغم من التناقض إذ أن الشرعية الالهية تأتي من فوق، وتسمو على الشرعية البشرية التي تأتي في صناديق الاقتراع على الأرض.
للسبب نفسه، يتمسك ”حزب الله“ بالتظاهر أن في لبنان دولة حرة وحكومة منتخبة بانتخابات نزيهة. هي انتخابات لا يمكن لأي مرشح مناوئ للحزب أن يترشح فيها في المناطق التي تسيطر عليها ميليشيا الحزب. أما في مناطق المسيحيين والدروز، فيستخدم ”حزب الله“ التخوين والعنف ضد خصومه، مثل في سلسلة الاغتيالات الغامضة التي طالت مسيحيين كانوا يعارضون سلاحه من جبران تويني وسمير قصير الى انطوان غانم وبيار الجميل. كذلك يغدق ”حزب الله“ المديح والدعم على من يؤيده بين المسيحيين والسنة الدروز، فيقفل البرلمان لانتخابهم رؤساء جمهورية وحكومة.
لماذا يستهلك ”حزب الله“ كل هذه الطاقة لتصفية وارهاب معارضيه اللبنانيين، وحصر الدولة في أيدي مؤيدي بقاء سلاحه؟ الإجابة هي نفسها حاجة طغاة العالم للشرعية. ربما يعتقد ”حزب الله“ أنه لو تشكل تحالف لبناني عريض من المسيحيين والسنة والدروز، وأعلنوا أن سلاحه هو ميليشيا خارجة عن الدستور، وطالبوه بتسليمه، وهي مطالبة تقترن بعشرات قرارات مجلس الأمن الدولي، يصبح احتفاظ الحزب بسلاحه خروجا عن الشرعية المحلية والدولية وقائما على قوته وحدها، وهذا ممكن، وانما محرج الى درجة يجعل من استمرارية السلاح متعذرة.
المطلوب حتى ينزع اللبنانيون سلاح ”حزب الله“ تكرار لحظة 14 آذار 2005، يوم أجمع اللبنانيون على خروج قوات الرئيس السوري بشار الأسد من لبنان، وكان اجماعهم معززا بقرارات مجلس الأمن الدولي.
يروي سفير أميركا في لبنان آنذاك جيفري فيلتمان أنه لما زار الأسد برفقة مبعوث الأمم المتحدة تيري رود لارسن، كان هدفهما اقناعه بسحب قواته الى البقاع، لكن حجم تظاهرة 14 آذار فاجأ فيلتمان ولارسن والأسد، الذي لم ينتظر ان يبادران الحديث، بل بادر هو بابلاغهما أن قواته ستنسحب من كل لبنان مع نهاية نيسان 2005.
منذ تلك اللحظة، عمل الأسد و”حزب الله“ على تفتيت 14 آذار، أولا بوعد ميشال عون بالرئاسة، ثانيا بتظاهر ”حزب الله“ أنه سيفتح صفحة جديدة، ما أقنع واشنطن والعواصم العربية بالضغط على وليد جنبلاط وسعد الحريري للانخراط في حكومة وحدة وطنية مع ”حزب الله“ تقدر على تحييد سلاحه، في اتجاه نسيانه، بدلا من مواجهته. ثم بدأت سلسلة من الاغتيالات للتخلص من الشخصيات المعرقلة لتفتيت 14 آذار، وكان أولهما قصير وتويني بسبب شعبيتهما بين العونيين، التي كانت ستقوض استدارة عون، ثم الجميل كقطب مسيحي صاعد.
إن إعادة بناء تحالف يصرّ على تسليم ”حزب الله“ سلاحه ليست عملية يسيرة، إذ هي تتطلب أن ينسى كل من في التحالف كل الشؤون السياسية الاخرى — كانتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة مكافحة الفساد والطائفية — وحصر كل المطالب بواحدة فحسب هي تسليم ”حزب الله“ سلاحه.
طبعا سيقوم الحزب بشن حملات تخوين، وقد تعود الاغتيالات الغامضة، وقد يعمل على ترغيب من يمكنه اخراجهم من التحالف، لكنها حملة سياسية تضمن اجباره على تسليم سلاحه أكثر بما لا يقاس من الانخراط في مغامرة حرب أهلية، وتوفّر على لبنان الموت والدمار، وحرب سوريا هي افضل مثال، إذ آثر الأسد أن يتربع على ركامها، بدلا من التخلّي عنها للحفاظ عليها.
* باحث في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات في واشنطن