د. ناصر زيدان
نشرت إحدى الصحف مقاطع من محضر جلسة مجلس النواب التي انعقدت مساء يوم 7 نيسان (أبريل) 1970 لمناقشة تداعيات حادثة الكحّالة التي وقعت في 26 آذار(مارس) وسقط فيها 20 شخصاً من الفلسطينيين العائدين من تشييع موكب الضابط الفلسطيني سعيد غواش، وأعقبها توتّر واسع وعمليات خطف طالت كوادر من حزب الكتائب في أكثر من منطقة. وقد تناقلت وسائل إعلامية عديدة الخبر المنشور في الصحيفة، وعنوان الخبر يربط الحدث الذي وقع قبل 53 عاماً بما جرى في بلدة الكحّالة نهار الأربعاء في 9 آب(أغسطس) 2023، على أثر انقلاب شاحنة أسلحة تابعة لـ"حزب الله"، وقُتل في الحادثة ضحية من شباب الكحّالة هو فادي بجاني وضحية أخرى من مقاتلي "حزب الله" هو أحمد قصاص.
من باب الواجب في تصويب الحقائق الدامغة، وليس من باب الردّ، (وأنا لا أمتلك أحقيّة أو صفة للردّ)، يمكن إيراد بعض الملاحظات:
أولاً؛ لا يوجد أيّ شبه بين ما حصل في آذار 1970 وما حصل في آب 2023. ما جرى هذه المرّة كان صدفة وليس فيه أيّ تخطيط مسبق، رغم الاحتقان الكبير، وهو بين فئات لبنانية. أمّا في حادثة العام 1970 فكان هناك قرار واضح بافتعال الاشتباك، والمسلحون كانوا منتشرين قبل وصول الموكب، وفعلتهم كانت ردّاً على استفزازات موكب الفلسطينيين كما قالوا، لأنّ عناصر موكب التشييع المتّجهين إلى الحدود اللبنانية السورية كانوا يحملون سلاحاً ظاهراً، والمسلّحون كمنوا لهم في طريق العودة، رغم أنّ الضابط الفلسطيني الذي تمَّ تشييعه ينتمي إلى الكفاح المسلح، وقُتل بسبب ملاحقته لعصابة من تجّار المخدرات في مخيّم تلّ الزعتر شمال بيروت.
ولم يكُن قد مضى على توقيع اتفاق القاهرة الذي أعطى شرعية للكفاح المسلّح الفلسطيني داخل المخيمات أكثر من أربعة أشهر. وقد وُجّهت اتهامات إلى الفريق الذي كمَن للموكب في الكحّالة بأنّه على تنسيق مع جهات خارجية لضرب مبادرة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، بينما تمَّ اتهام الفلسطينيين في حينها بأنّهم تجاوزوا كلّ الحدود في استعراضاتهم المسلحة، بالتزامن مع توتّر كبير كان يحصل بينهم وبين السلطات الأردنية. وإدراجنا هذه التفاصيل يأتي من باب الإضاءة على الحدث كونه بعيد الشبه عمّا حصل الأسبوع الماضي، وليس من باب التذكير بأيام سوداء مضت، ولا نية عندنا بالحكم على ما حصل، أو بتحميل أيّ طرف مسؤولية ما جرى أو تبرئة طرف آخر.
ثانياً؛ لقد تمَّ اجتزاء مقاطع من محضر جلسة مجلس النواب التي انعقدت يوم 7 نيسان 1970 لمناقشة تداعيات الحادثة الكبيرة (بشهادة كتب مذكرات عدد من رجالات السياسة الذين واكبوا المرحلة، ومنهم الوزير فؤاد بطرس والنائب حسن الرفاعي والسفير كلوفيس مقصود)، وقد أورد الاجتزاء بعض تفاصيل الاستجوابات التي تعرَّض لها كمال جنبلاط كونه وزيراً للداخلية، لاسيّما على لسان النائب رينيه معوّض (أُنتخب في 5/11/1989 رئيساً للجمهورية واغتيل بتاريخ 22/11/1989)، الذي اتّهمه بالتقصير في معالجة المشكلة، وبالتعاطف مع الفلسطينيين على حساب أمن لبنان، معتبراً أنّ جنبلاط يشارك في خطّة للإتيان برئيس جمهورية "دمية" كما قال معوّض، يمهّد للقضاء على استقلال لبنان نهائيّاً.
وقد تمَّ نشر جزء من ردّ كمال جنبلاط، لاسيّما منه اتهامه للمكتب الثاني بالضلوع في الحادثة، وبتزويد المسلحين الذين كمنوا للموكب بالمعلومات الأمنية، وربما بالسلاح كما ذكر جنبلاط. وقد أغفل ناشرو المحضر طرح جنبلاط الثقة بنفسه كوزير للداخلية في الجلسة ذاتها، وهو ما لم يقبل به غالبية النواب الحاضرين. كما تجاهل ناشروا المحضر، عرض كمال جنبلاط لوقائع زيارته شخصياً بعد دقائق من وقوع الحادثة على رأس وفد من وزارة الداخلية وبرفقه شفيق الحوت، الممثل الرسميّ لمنظمة التحرير الفلسطينية، إلى مكان الحادث، والتوجّه مباشرةً إلى منزل رئيس بلدية الكحّالة أبو جهاد نعمة الله بجاني، وأشرف على مصالحة بين الفريقين، وأكّد بجاني أمام الجميع؛ أنّ المسلحين الذين أطلقوا النار على الموكب الفلسطيني ليسوا من أبناء الكحّالة.
ثالثاً؛ أغفل الاجتزاء كليّاً دور كمال جنبلاط في إطلاق سراح الشاب بشير بيار الجميل ابن رئيس حزب الكتائب (انتُخب في 23 آب 1982 رئيساً للجمهورية واغتيل في 14 أيلول 1982)، من خلال مفاوضات شاقّة مع القيادات الفلسطينية، ولاسيّما مع زهير محسن رئيس منظمة الصاعقة المقرّبة من سوريا، والذي كان يخطف الجميّل، وبواسطة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وقد أكّد كمال جنبلاط أنّ بشير الجميل لم يكُن متواجداً في الكحّالة أثناء الحادث كما أُشيع، وهو لم يشارك في الاشتباكات.
وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فقد يكون مفيداً التذكير بالموقف التوفيقيّ الذي لعبه كمال جنبلاط في العام 1970، خصوصاً في إقناع الأطراف كافّة بأنّ ما جرى ليست له أبعاد خارجية، لأنّه تزامن مع أحداث كانت قد بدأت في الأردن، وقيل أنّها كانت تهدف لإجهاض المساعي الفلسطينية بالمبادرة إلى إطلاق مقاومة مسلّحة ضدّ إسرائيل في كلّ المنطقة. ونفى جنبلاط بصفته وزيراً للداخلية أن يكون حزب الكتائب قد تلقّى أسلحة من الأردن، غامزاً من قناة بعض ضبّاط المكتب الثاني.
وعلى عكس ما ذكر في الاجتزاء من محضر جلسة مجلس النواب، فقد أعلن جنبلاط استقلاليته في موضوع انتخابات رئاسة الجمهورية، مخالفاً التوجّهات المصرية بتأييد المرشّح الشهابي الياس سركيس، واقترع لصالح الرئيس الراحل سليمان فرنجية.
الحادثتان المختلفتان في الكحّالة ليستا متشابهتين. لكنّ دور وليد جنبلاط في المساعدة في تطويق الفتنة في العام 2023 قد يكون مشابهاً للدور الذي لعبه كمال جنبلاط في العام 1970.