بعد 44 عاماً من جهود مكافحة التأثير الثقافي الغربي، وبعد 44 عاماً من الهندسة المجتمعية وفق الثقافة الإسلامية القويمة، وبعد 44 عاماً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد 44 عاماً من إجبار النساء على ارتداء الحجاب في الأماكن العامة، انتشرت الشهر الماضي في إيران مقاطع فيديو وصور تظهر رضا ثقتي، مدير دائرة الثقافة والإرشاد الإسلامي في مدينة جيلان، في وضع حميم مع رجل إيراني آخر.
ولأن ثقتي من أبرز أعمدة الحرس الثوري، وقام بمهام قمع ضد الانتفاضات الشعبية المتعددة ضد النظام الاسلامي الايراني، ولأن ثقتي على صداقة وثيقة بسعيد جليلي مستشار مرشد الجمهورية الأعلى علي خامنئي، فإن عقوبته اقتصرت على فصله من مهمته في الإرشاد الإسلامي، التي تتضمّن إجبار النساء على الحجاب، ومعاقبة المثليين وأصحاب العلاقات العاطفية خارج الزوجية بالموت إما شنقاً من رافعات البناء أو رجماً بالحجارة.
والمثلية الجنسية ليست دخيلة على المجتمعات العربية والإسلامية، بل إن عمرها من عمر الحضارة. كانت أحياناً تظهر علناً بلا خوف، مثل لدى اليونان أو في بغداد العباسيين، وأحياناً أخرى تختبئ خوفاً من التعييب الاجتماعي، أو العقوبة الدينية، أو الاثنين معاً.
ولبنان ككل دول العالم، قصص المثلية الجنسية فيه مجبولة في أساطيره القديمة لدى الفينيقيين والأيطوريين وباقي الشعوب المحلية المتوالية، بما في ذلك العرب من مسلمين ومسيحيين ويهود.
وفي تاريخ لبنان الحديث، لا تخفى حياة المثلية الجنسية السرية التي عاشها سياسيون ومسؤولون ونافذون.
ويعرف لبنانيون الميول المثلية عند هذا أو ذاك، ولكنهم يكتفون بترداد أنها حياته وخياراته ما دام لا يعلنها. هذا النفاق وهذه الازدواجية في القول علناً عكس ما يمارس الناس سراً مسؤولة الى حد كبير عن الانهيار اللبناني الحاصل، دستورياً واقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً.
من المعيب أن يثور لبنانيون ضد النائب مارك ضو لتوقيعه على مشروع قانون يطالب بإلغاء تجريم العلاقات المثلية بين راشدين. حتى محكمة لبنانية سبق لها أن أصدرت حكماً يناقض المادة 534 من قانون العقوبات محل الشكوى، إذ لا يجوز لأجهزة الأمن اللبنانية أن تعاقب الناس على خياراتهم العاطفية، إن المثلية، أو خارج الزوجية، أو من أي نوع آخر.
ويمكن لأي لبناني أمضى سنوات كافية بين ثنايا "البيئة الحاضنة" لما يسمّى "المقاومة الإسلامية" أن يؤكد أن هذه البيئة ليست فاضلة ولا تعيش كالملائكة، إذ ترصد في صفوفها، كأي بيئة أخرى، العلاقات الجنسية خارج الزوجية، والمثلية الجنسية، وتعاطي المخدرات، الى حد دفع الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله يوماً الى الإطلالة في خطاب غضب ضد المخدرات داعياً دولة لبنان، التي تسبّب بانهيارها، الى ملاحقة من يتعاطونها داخل "البيئة الحاضنة".
القمع لا ينفع. لا في إيران، ولا في لبنان، ولا في أي بلد آخر في العالم. طبعاً، يتظاهر معادو "مجتمع الميم" بأن ما يثير قلقهم هو أن تصبح المثلية الجنسية أمراً طبيعياً، وهو ما يؤثر في القاصرين ويدفعهم لتبنّي هذه الخيارات ”الشاذة“، وهذه فكرة متهالكة يمكن دحضها في سطور، إذ إن المثليين، مثل السيد رضا ثقتي عضو ”الحرس الثوري“ ومدير مكتب الإرشاد الإسلامي الإيراني، ابن والد ووالدة ليسا من المثليين، وهو نشأ في إيران حيث قمع المثلية، اجتماعياً ودينياً وقانونياً، في ذروته.
طيّب من علّم ثقتي على ممارسة المثلية الجنسية إن كان لم يتعرّض لها كل حياته؟
إن الخيارات الجنسية هي أكثر الأمور فردانية في العالم، فأهل المثليين ليسوا مثليين، وأشقاء وشقيقات المثليين ليسوا مثليين، وأصدقاء وصديقات المثليين، منهم مثليون ومنهم من غير المثليين، وهو ما يعني أن اختيار المثلية الجنسية ذاتي داخلي يحصل وفق تفاعلات بيولوجية ونفسية لا يفهم فيها خبراء العلوم الاجتماعية من أمثالنا.
ما نعرفه، كمتخصصين في الدول والدساتير والسياسات والحريات والعلاقات الدولية، هو أن الحرية والشفافية هي في صلب المجتمعات المتصالحة مع نفسها. يمكن لأي من يرى في المثلية الجنسية ”شذوذاً“ أن يعلن ذلك، ويعظ المثليين، وهذا جزء من حرية الرأي. لكن لا يمكن لمعارضي المثلية فرض رأيهم ومنعها، وتعييب المثليين، وتعييب مؤيدي حرية المثليين.
وتعييب المثليين ومؤيدي حريتهم يبرز عادة آفات مجتمعية إضافية، كما في مخاطبة الذكر بصيغة التأنيث كإهانة لأن المرأة عورة، ولأن المتلقي في العلاقة إهانة كذلك. هكذا، تتراكم أمراض مجتمع يتصوّر نفسه مثالياً وملائكياً وحارساً للفضيلة وتقاليد العفّة المتخيّلة.
إن قيام وزير ثقافة لبنان محمد وسام المرتضى بحظر فيلم باربي الأميركي بتهمة نشره "الشذوذ الجنسي" هو اعتداء على كل لبناني، لا لأن الرقابة هذه تتعارض والحرية فحسب، بل لأن الوزير أعلن نفسه وصيّاً على ما يمكن للبنانيين مشاهدته حتى يبقوا فاضلين وعلى ما يعتقد هو أنه يفسدهم ويفسد أخلاقهم، وأنه لا يعكس الثقافة اللبنانية الأصيلة، إذ ذاك يصبح السؤال: ما الذي يعكس الثقافة اللبنانية الأصيلة؟ مسلسل "الهيبة" عن المهرّبين والطفّار والفارين من القانون الذين يستبدلون الدولة وعدالتها بعدالة عشائرية يطبّقونها بتصفية بعضهم بعضاً؟ طبعاً هذا القول مع كل الاحترام للمسلسل المذكور والقيّمين عليه، فهو عمل فني يعكس مجتمعاً، فإن كانت المشكلة في المجتمع، لا يجوز محاسبة المسلسل أو حظره.
ستبقى المثلية الجنسية منتشرة في جمهورية إيران الإسلامية، في أوساط المتدينين والمحافظين و“الحرس الثوري“ والليبراليين وباقي الإيرانيين. وستبقى المثلية الجنسية منتشرة في أرجاء لبنان.
لا يستوي التعامل مع المثلية الجنسية إلا بأن تتصالح هذه المجتمعات، الإيرانية واللبنانية والعربية والعالمية، مع نفسها وواقعها، وأن تتخلى تماماً عن الهندسة المجتمعية، وأن تترك للناس خياراتهم، مع نقاش مفتوح حول هذه الخيارات، وتقديم آراء المؤيدين والمعارضين. كلها أمور تبدو بديهية، ولكن يمكن لمن يطالع سلسلة تغريدات المرتضى، بما فيها رميه النائب ضو بتهمة أنه يريد الحرية، أن يرى ضحالة تفسّر انحطاط لبنان، وبقاءه في الحضيض.