د. نشأت زبداوي
من الطريف جداً من حين إلى آخر، وأنت تتابع أخبار الصحف اليومية المليئة بحفلات الفجور السياسي في بلد أصبح مسرحاً للتنافس على النفاق والتضليل، أن يقع نظرك على بيان تعقيب على حادثة الكحالة لما يسمى بـ"شيوعيون في القاعدة الحزبية"، يعلنون فيه قرارهم بعدم التراشق الإعلامي مع قيادة الحزب في ما يتعلق بالمواقف السياسية اليومية، لأنهم ليسوا فريقاً أو تياراً مستقلاً عن الحزب، مؤكدين حرصهم هذا من خلال نشر هذا البيان المستقل في جريدة النهار!! معبّرين فيه عن قلقهم من حادثة الكحالة بكونها كشفت "مستوى هشاشة البلد وقابليته للاشتعال في أي لحظة"، لتكتمل جوقة الفجور السياسي هذه بنكهة يسارية الطابع.
في الحقيقة ما جاء في هذا البيان "التعقيبي"، كلام هام وعميق وتحليل غير مسبوق للواقع بعد تفكيكه وسبر أغواره، للوصول إلى هذه النتائج والحقائق التي لم يكن لأحد أن يتوقعها على الإطلاق. لولا بيانكم وإنشائيتكم الخالية من الركاكة والهشاشة (اللغوية منها والأيديولوجية)، بحكم مهامها الوظيفية في خدمة "مشروع الدولة الوطنية المقاومة" ومحتكريها، ومشاريعهم الطائفية التفتيتية الحامية للنظام البرجوازي اللبناني الوكيل.
الطرافة بعينها عندما يبدأ "شيوعيون في القاعدة الحزبية" التكلم بموضوعية:
أولاً: "إن الموقف النقدي من سياسة حزب الله الداخلية بصفته أحد أطراف النظام الطائفي لا يلغي دوره كقوة مقاومة"، لا يا سادة هو أحد الأركان الصلبة للنظام الطائفي النتن.
ثانياً: "إن حادثة كوع الكحالة إنما هي تعبير عن الصراع حول القضية الوطنية"، لا يا سادة لقد أُسدل الستار على القضية الوطنية منذ العام 1987... أنسيتم أم تتناسون؟.
ثالثاً: "استهداف لدوره كمقاومة شعبية مسلحة"... لا يا سادة لم يرتق لهذه الصفة، وهذا بإرادته عندما قرر أن يكون قوة مذهبية مسلحة عابرة للحدود، تقاتل تحت مسميات وشعارات دينية مضى عليها أكثر من ألف عام.
رابعاً: فيما خص "مشروع قيام الدولة الوطنية المقاومة". هل لنا أن نقتدي بنموذج حول هذا المشروع؟ اليمن مثلاً أو العراق، على الأرجح سوريا، أليس كذلك؟
من المثير للدهشة والإعجاب أن "شيوعيون في القاعدة الحزبية" اكتشفوا الآن المخاطر الوجودية التي تهدد مصير البلاد فقط من خلال حادثة الكحالة، "علماً أن الحادثة بحد ذاتها يُمكن إدراجها أيضاً ضمن مفهوم نيران صديقة، كونها جرت بين طرفين تربط بينهما أوراق تفاهم وُلدت من رحم كنيسة، للدلالة على قدسيتها، وأخيراً تعمدت بالدم من أمام كنيسة، وأدت إلى مصرع مواطنين ينتمون لشريحتين فئويتين، الأولى تعتبر أن حماية هذا الكيان وحماية الأقليات الهوياتية الموجودة على أرضه مشروطة بشرعية ما لديه من فائض قوة، والثانية تتمتع بالتواضع الجيني حيث تربط مبرر وجود هذا الكيان حصراً بوجودها وتربعها على عرش مؤسساته.
لم تسعف "شيوعيون في القاعدة الحزبية" ذهنيتهم الفرط ثورية في معرفة أن ما وصلنا إليه اليوم من انهيار وخراب وتفتيت ممنهج للبنى الاقتصادية والخدماتية والتعليمية والصحية، ناهيك عن المجهول المتربص بمستقبل ما بقي من أبناء شعبنا، هو نتيجة طبيعية وحتمية لسلسلة من السياسات المقنعة والممنهجة تحت مسميات عدة اتبعتها هذه المنظومة الحاكمة، بدءاً من قرار مجلس الأمن رقم 1701 وصولاً إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع دولة الكيان المحتل.
لم يعد هناك من مهام على عاتق "شيوعيون في القاعدة الحزبية" سوى توظيف هذا النوع من الأحداث المتوقعة أصلاً، لإصدار البيانات بهدف التمايز عن الحزب والمزايدة عليه، تحديداً في موضوع المقاومة واستهدافها للاصطفاف والتموضع إلى جانب الطرف الأقوى من قوى النظام الطائفي المتنازعة على الهيمنة والنفوذ والسلطة اليوم، والمتحاصصة غداً، وكل ذلك من خلال اللعب على مشاعر الشيوعيين ووجدانهم المقاوم الذي تم سلخه عن ساحات المقاومة بحد السيف.
من الأجدى باليساريين عموماً و"شيوعيون في القاعدة الحزبية" على وجه الخصوص، الانفكاك عن العمل الوظيفي لصالح مشاريع مقنعة هنا وهناك، تارة من أجل الدفاع عن "قدسية المقاومة" متناسين أن المقاومة فعل يومي من أجل رفع المظالم عن الناس سواء كانت هذه المظالم من محتل غاصب أم من منظومة سياسية مستبدة تابعة، وتارة أخرى من أجل الدفاع عن (حقوق الطوائف، والتعددية، والميثاقية، والتعايش والديمقراطية وحقوق الإنسان والانفتاح... إلخ) وغيرها من العناوين البالية التي لم تجلب لهذه البلاد سوى الخراب بعد الفساد.
من الأجدى بنا أن توظف طاقات اليساريين من أجل إيجاد آليات لمواجهة التطرف المذهبي الآخذ بالتربع على عرش البنى الفكرية لمجتمعنا، واستعادة القليل من العقل المغيب فيه لتحرير الإنسان من قيود التأويل الرجعي للدين كمقدمة لتجديد العمل معه وحثه على النضال من أجل الدفاع عن حقوقه.
وأخيراً "ما ارتكبناه في الانتخابات"، كان مجرد محاولة قد تكون خاطئة، ولكن من المؤكد أن ما ترتكبونه أنتم كل يوم من خدمات وظيفية استرضائية للحصول على دور ما على خارطة القوى الطائفية المهيمنة، لا يليق بدور حزبنا التاريخي والطليعي في المقاومة الوطنية على الاطلاق، ولايليق بشهدائنا الذين سقطوا من أجل التحرير والتحرر من كل آليات الاستتباع وقوى الاستبداد الطائفي المهيمنة على شعبنا.
وفي النهاية يبقى السؤال، كيف بالإمكان تحرير الدولة ومؤسساتها من سطوة وفساد المنظومة الحاكمة، وطغيان نظامها الطائفي وميليشياته الرادعة لكل محاولات التغيير؟