النهار

التمرّد الأفريقي على فرنسا... ودرس العرب
من الاحتجاجات في الغابون. ("أ.ف.ب").
A+   A-
طلب مني أخ عربي الكتابة عن حاجة "الأحرار" في بلاده الى دعم الدول الخليجية، وشكا عقوداً من الفاقة والظروف الصعبة التي يمر بها وطنه وشعبه.
 
لم يكن بحاجة لشرح الحالة فالكل يعرفها، ولكنه كان بحاجة لشرح أسبابها. ولذلك كان ردّي أن بلدان الخليج، في ميزان الثروة، وموارد القوة، هي التي يجب أن تطلب المساعدة. فبلاده توافر لها النفط والغاز والمعادن، كما رزقها الله بالماء والأرض الخصبة والتنوّع البيئي. والأهم أن لديها رصيداً لا يضاهى من الموارد البشرية. فأين ذهب كل هذا الذهب؟
 
عساكر المستعمر
لم يحر جواباً، فأجبت عنه: تسرّب الذهب في غربال حكم العسكر، وجيل الثورة، والاستعمار الجديد. ضاع في جيوب المتنفذين وعصابات الحكم والأعمال. وانتهت الثروات في بنوك سويسرا والمستعمرين السابقين، اللاحقين. وأي دعم جديد ستنتهي به الحال الى نفس الغرابيل والجيوب والحسابات.
 
تذكرت هذا الحوار وأنا اتابع آخر انقلابات أفريقيا، في الغابون. فعائلة واحدة، لضابط واحد، قاد انقلاباً عسكرياً، قبلياً، وحكم بلاده أربعة عقود، ثم ورّثها لابنه، تتحوّل من حكم ديكتاتوري معلن، الى حكم ديموقراطي مدَّعى، أمام أنظار العالم الحر، والمستعمر الأسبق، ولا يعترض أحد.
 
أبحث عن فرنسا!
هذه البلد تملك موارد هائلة من النفط والذهب واليورانيوم، ولا يتجاوز عدد سكانها 2.4 مليون، ومع ذلك ليس فيها شبكات للمياه والكهرباء والطرق، إلا الى قصر الرئيس وفيه. فأين ذهبت الثروات؟ ولماذا يصمت حماة الديموقراطية ودكاكينها في الغرب؟
 
الجواب ببساطة في ما انتهى إليه العقيد معمر القذافي: المال هو دين الغرب! ففي الغابون، كما في كل المستعمرات فرنسا السابقة، تحتكر الشركات الفرنسية كل عمليات التنقيب والتصدير وتتقاضى مقابل ذلك ما يصل الى 70% من الإيرادات. وتودع نسبة من الباقي في بنوكها، بعد حسم الدين الاستعماري الذي تحمّله المستعمر في تأسيس البنية التحتية (التي لا ترى بالعين المجردة) في تلك البلدان. أما القليل الباقي، فيوزعه الحاكم "المحميّ" من القوات والاستخبارات والسفارة الفرنسية، كما يراه مناسباً، بعد إيداع حصته "الأكبر" في حسابه الفرنسي.
 
وحتى تاريخه، فإن الدولة الأفريقية ملزمة من خلال الاتفاقية الاستعمارية، بوضع 85٪ من احتياطاتها في البنك المركزي الفرنسي تحت سيطرة وزارة المالية الفرنسية.

الرد الغابوني
وفي المرات التي قامت فيها محاولات انقلاب عسكري في السابق، نفذت فرنسا عمليات تخلص من القادة "المتمردين"، وإعادة للقادة "التابعين". وآخر تلك العمليات تمت عام 2019 لإعادة تثبيت الرئيس علي عمر بونجو بعد انقلاب ضده، رغم أنه كان مصاباً بشلل نصفي نتيجة جلطة أعاقت قدرته على قيادة البلاد. وفي هذا السياق نتفهم إقدام قادة الانقلاب على إلغاء كافة تراخيص التعدين للشركات الفرنسية وتقديم تحذيرات للسفن الفرنسية بعدم الاقتراب من الموانئ التي كانت تديرها فرنسا.
 
وتشكل هذه الخطوة ضربة قاسية للاقتصاد الفرنسي، فعضو منظمة أوبك، الغابون، تُعدّ الدولة السادسة في العالم من حيث احتياطيات النفط المؤكدة، والمقدّرة بـ3.68 مليارات برميل وتملك الشركات الفرنسية 70% من قطاع النفط والغاز و40% من إنتاج التعدين، وتمثل 40% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الغابون.
 
أسباب الانقلابات
ومع كل هذه الثروات، يعيش ثلث السكان تحت خط الفقر، فيما يحتفظ الرئيس المخلوع علي بونغو بمليارات الدولارات والقصور في فرنسا، وينفق بتبذير على أهوائه، مثل دعوته اللاعب الأرجنتيني ميسي ليوم واحد عام 2015 مقابل 2.5 مليون دولار، واستيراد ثلج مزيّف ليفرش به حدائق القصر الرئاسي بمناسبة احتفالات عيد الميلاد.
 
وأسباب الانقلابات الأفريقية متعددة ومتنوعة، أبرزها، ضعف الاقتصاد، ما يؤدي إلى انتشار الفقر والبطالة، وارتفاع معدلات التضخم، وشعور المواطنين بالظلم والاستياء. والبيئة الأمنية المضطربة نتيجة صراعات مسلحة، وانتشار الجماعات الإرهابية، ما يضعف الاستقرار السياسي والأمني في هذه الدول. وعدم احترام المواثيق الديموقراطية بتقييد الحريات العامة، وفرض الطوارئ، وتمديد فترات الحكم. وتدخل القوى الخارجية بدعم أو تمويل الانقلابات العسكرية في أفريقيا، إما لتحقيق أهدافها الخاصة، أو لعرقلة مصالح الدول الأخرى في المنطقة.
 
التدخل الفرنسي
ومثال ذلك، الموقف من موديبو كيتا، أول رئيس لجمهورية مالي، عندما أراد الانسحاب من النظام النقدي CFAF (المفروض على 12 دولة أفريقية مستقلة حديثاً). فبالنسبة للرئيس المالي كان من الواضح أن الاستعمار الذي استمر مع هذا الاتفاق أصبح عبئاً على تنمية البلاد. إذ لم يطل الرد، ففي 19 نوفمبر 1968، ذهب كيتا ضحية انقلاب بقيادة قائد فرنسي سابق للشؤون الخارجية، الملازم موسى تراوري. وسبقه الى نفس النهاية، في 1966، ديفيد داكو أول رئيس لجمهورية أفريقيا الوسطى، على يد جان بيدل بوكاسا الضابط في "الفيلق الفرنسي الأجنبي" التابع للجيش الفرنسي منذ 1831. وأعضاؤه جنود مشاة أجانب مُدربون تدريباً عالياً. وسبق له مشاركة القوات الفرنسية في أندونيسيا والجزائر ضد ثوارها. وبنفس الطريقة أطيح رئيس توغو المنتخب، سيلفانوس أولمبيو (1960-1963).
 
وفي نفس العام (1966)، كان موريس ياميوغو، أول رئيس لجمهورية فولتا العليا، المسمّاة اليوم بوركينا فاسو، ضحية لانقلاب قاده أبو بكر سانجولي لاميزانا، التابع أيضاً للفيلق الفرنسي. وفي 26 أكتوبر 1972، قام ماثيو كيريكو، حارس أمن للرئيس هوبير ماغا، أول رئيس لجمهورية بنين، بانقلاب ضد الرئيس، بعدما التحق بالمدارس العسكرية الفرنسية من 1968 إلى 1970. في الواقع، وعلى مدى الأعوام الخمسين الماضية، قام في أفريقيا 67 انقلاباً في 26 دولة، 16 منها مستعمرات فرنسية سابقة، أي إن 61٪ من الانقلابات في أفريقيا بدأت في المستعمرات الفرنسية السابقة.
 
تحذير شيراك ونبوءة ميتران
في مارس 2008، قال الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك: "بدون أفريقيا، ستنزل فرنسا إلى مرتبة السلطة الثالثة والعشرين"، وتنبأ سلفه فرانسوا ميتران بالفعل في عام 1957 قائلاً: "بدون إفريقيا، لن يكون لفرنسا تاريخ في القرن الحادي والعشرين".
 
واليوم تتحقق النبوءة، وتبدأ أفريقيا بالتخلص من أغلالها، مستفيدة من التهافت الدولي عليها. فكما قاد جمال عبد الناصر ومعمر القذافي وصدام حسين وحسني الزعيم وسالم ربيع علي انقلاباتهم ضد المستعمر الأوروبي على ظهر الدبابة الأميركية أو الروسية، تتوزع ولاءات الانقلابيين الجدد بين القوى العظمى الطامعة في الموارد الأفريقية، أميركا وروسيا والصين، والصغرى، تركيا وإيران وإسرائيل، وبعض البلدان العربية.
 
درس العرب
حال أفريقيا اليوم، كالمستجير من الرمضاء بالنار، فمن مستعمر الى آخر. ومن مولى لمولى. وكلهم من فئة مصّاصي الدماء. والعبرة لنا، أن الديموقراطية الغربية زائفة، وتصميمها ملغوم، وهدفها تسهيل اختراقها بالقيادات والأحزاب والعقائد الموالية، وتقييدها بلعبة وضع قوانينها الرجل الأبيض، ليقود بها ويحكم من وراء الكواليس.
آن للعرب أن يبحثوا في تاريخهم وتراثهم العظيم عمّا يمكن أن يطوّروه ليتناسب واحتياجات العصر الحديث. فما حكّ جلدك مثل ظفرك. وما أتاك طامع بدواء لك فيه شفاء.
 
@KBATARFI

اقرأ في النهار Premium