الحوار والسلاح عدوّان وجوديّان. نظرتان متناقضتان إلى العلاقة بين البشر، وإلى طريقة حلّ نزاعاتهم.
لتجاوز الخلافات، ولحلّ النزاعات، يستنجد الحوار بالعقل لإقناع الطرف الآخر، فيما يستنجد السلاح بالترهيب أو القتل، لإلغاء الطرف الآخر.
بين الحوار والسلاح، تتوسط الديمقراطية. "لا بأس بالحوار" تقول الديمقراطية، لكنّه قد لا يكون قادراً على حلّ المشكلات بالإقناع، لتضارب المصالح والقيم ورؤية الأمور بين أطراف متعدّدة. لتفادي هذا الاحتمال، وبالتالي الغرق في نزاع دائم، تلجأ الديمقراطية إلى التصويت على موضوع الخلاف، وتعتمد رأي الأكثرية مع الحفاظ على حرية الأقليّة بالمعارضة.
لأنّ التصويت يفترض حرية الرأي من جهة، والقدرة على تطبيق نتائج التصويت من جهة أخرى، تشترط الديمقراطية تحييد السلاح بعيداً من الأطراف المتنازعة، ووضعه في عهدة الدولة، والاحتكام إلى القانون حصراً.
لنصرالله وحزبه رأي آخر. يريدان الاحتفاظ بالسلاح، بالرغم من إرادة أكثريّة اللبنانيين، فيعملان على تعطيل العملية الديمقراطية من خلال تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية. بالمقابل، يطالب بالحوار يوميّاً، من على منصّات الحزب. فهل يعوّل "حزب الله" على عملية الإقناع في حلّ الخلافات بين البشر؟ كحزب ديني-عسكري، الإقناع هو آخر ما يعّول عليه الحزب في التعامل مع الآخرين المخالفين. نصوصه ملزمة له وللآخرين، ولا تتقبّل الحوار، وممارساته لا تترك مجالاً للشك بتعويله على العنف بديلاً من الإقناع.
المطالبة بالحوار بالنسبة إلى "حزب الله"، والثنائي الشيعي معه اليوم، هو كمن يدخل إلى دارك حاملاً السلاح، ويقول لك "السلام عليكم". الحوار هنا، هو خداع إعلامي فقط لإعطاء السلاح المزيد من الوقت للتحكّم نهائياً بمصير اللبنانيين. مقاربة الحوار على هذا الشكل تسخّف معناه ووظيفته، وتجعل منه وسيلة بيد السلاح، عدوّه الوجوديّ والتاريخيّ. يريد "حزب الله" أن يحوّل الحوار إلى ما يُشبه صفة من صفات السّلاح، أي إلى أخرس. يريد إخضاعه لمنطق السلاح، أي القضاء على جوهر معناه نهائيا.
البطريرك الراعي، ينتهج نهجاً معاكساً، لكن ليس أقل خطراً على مفهوم الحوار. موقفه من الحوار، قبل انتخاب رئيس للجمهورية، يقفز بسرعة من الرفض إلى القبول، وبالاتجاهين. لم يتعلّم الراعي من معلّمه يسوع الذي قال: "فلتكن كلمتك نعم نعم أو لا لا، وكلّ ما زاد على ذلك فمن أعمال الشيطان".
في تصريح جديد له، من أوستراليا هذه المرة، قال الراعي حرفياً: "جوهر مشكلتنا في لبنان هو انعدام ثقة المسؤولين ببعضهم البعض بكلّ أسف، والشعب لم يعد يثق بلبنان. لقد فقدوا الثقة لأنهم غير مخلصين لبعضهم البعض، فلكلّ مصلحته المؤمنة، وهم لا يريدون البحث حول الطاولة عن إيجاد حلّ لمشكلة لبنان وما من أحد بينهم يريد الخسارة".
في تصريح الراعي تسخيف للمشكلة اللبنانية، تناقض، وتشويش فكريّ.
جوهر المشكلة بالنسبة إليه هو انعدام الثقة بين المسؤولين، وليس بينهم وبين شعبهم؛ فالشعب لم يعد يثق بلبنان وليس بهم، حسب ما يقول. جوهر المشكلة هو انعدام الثقة بينهم، وليس تنافسهم على النفوذ والسرقة والاستتباع للخارج. مع أنه يستدرك ويقول إن لا أحد يريد الخسارة! لكنّه لا يحدد طبيعة هذه الخسارة. وجوهر المشكلة ليس بالطبع هيمنة حزب ديني-عسكري على البلاد، والتي تجعل انعدام الثقة بين المسؤولين، مسألة مفهومة، بسبب تنافسهم على كسب ودّ الحزب المهيمن.
ويدرج الراعي في كلمته مفهوم "المصلحة المؤمنة" عند المسؤولين، مبرّراً ربما دون أن يدري المصلحةَ بالإيمان.
وأخيراً، يلوم الراعي المسؤولين لأنهم لا يريدون الجلوس حول طاولة لحلّ مشكلة لبنان، التي اعتبر جوهرها عدم ثقتهم بعضهم ببعض. وكأنه يرى في طاولة الحوار هذه مناسبةً لعلاج نفسي جماعي، يُعيد الثقة بين المسؤولين.
يا لَلهول يا غبطة البطريرك!