عبدالله عبدالصمد
إذا كان المال عصب المؤسسات، فالموظف عمودها الفقري، يأخذ الأوامر من رئيسه ويحوّلها إلى أفعال. من دونه لا عملَ يُنفَّذ، ولا أفكار تتحقق على الأرض.
إذاً، هو الرابط الأساسي والوحيد بين الأفكار والأفعال. إن نجح ازدهرت الأفكار أعمالاً صحيحة، وإن أخطأ أو تلكّأ أتى التنفيذ ناقصاً أو مشوَّهاً.
يربط المتخصصون معايير الموظف المثالي بصفات أخلاقية ومهنية محددة، مثل: الصدق، النزاهة، حب المبادرة، الالتزام، إنجاز العمل بإخلاص ومسؤولية...، وغيرها من المعايير التي تختلف بين اختصاص وآخر، أو بين مؤسسة وأخرى.
تقابل كل هذه الصفات والمعايير التزامات واضحة من صاحب العمل، أهمها الراتب، أو الأجر. فبدلات الأتعاب هي الغاية الأولى التي يسعى الموظف على تحقيقها. وتصبح الغاية كارثية إذا تحولت إلى حاجة ملحة يهدّد فقدانها أمنه المعيشي برمّته.
استواء كفّتَيّ الواجبات والحقوق سبب أساسيّ لاستقامة العمل، لكنْ لصروف الدّهر أحكام. وتحت وطأة الانهيار الإقتصادي ما هو حال بلديات لبنان؟
جميعنا لمسنا النقص الهائل في أدائها التنموي، وقد أخذت هذه المشكلة حيّزاً واسعاً على الشاشات وعلى الصفحات وعلى ألسنة الناس. فهل من حلّ لها إلا بانتعاش الاقتصاد الوطني بشكل عام؟ وكيف يمكنها تخطي الأزمة بأقل أضرار ممكنة؟
قد تكون البداية من إنصاف الموظف، فهو بذرة النور التي قد تتحوّل إلى وميض، ثم إلى شعاع... دعونا لا نستهتر بالتفاصيل.
يقول رئيس اتحاد بلديات الشوف الأعلى روجيه العشي، إنه لا يمكننا تخطي الأزمة إلا بالتضحية والتعاون، فهذه الأيام الاستثنائية تتطلب جهوداً استثنائيّةً من الجميع. لكن إعطاء الموظف كاملَ حقوقه لا بدّ أن يؤثر إيجاباً وبصورة فورية على الأداء ككل. ففي ظلّ هذه الظروف لا يمكننا إجبار الموظف على الالتزام بالدوام الرسمي المعتمد. لذلك نرى أن على رؤساء البلديات العمل بجهد مضاعف لتغطية النقص الحاصل، خصوصاً في الجهاز الإداري، لحين إيجاد حلّ جذري لرواتب الموظفين. فبغير ذلك لا يمكن للعمل البلدي أن يستمرّ.
ماذا عن الزيادات التي أقرتها الحكومة؟
يجيبنا عضو الهيئة التأسيسية لرابطة موظفي بلديات واتحادات بلديات لبنان عبدالهادي مزهر بصورة وافية، إذ يشرح لنا كيفية ارتباط النقص بمشكلة الرواتب واختلافها بين بلدية وأخرى، وأنها في أحسن الأحوال لم تصل بعد إلى نسبة 15 في المئة من قيمتها قبل الأزمة.
يقول: "بما أن البلدية شخصية معنوية قائمة بحد ذاتها، وتتمتع بالاستقلال المالي والإداري ضمن نطاقها الجغرافي، فقد اختلف تعاطي البلديات مع التعاميم الصادرة عن الجهات الحكومية من بلدية إلى أخرى، بالرغم من أنها واضحة وملزمة للجميع. ففي حين أقرّت بلديات قليلة سبعة أضعاف الراتب لموظفيها، التزمت غيرها بإعطائهم أربعة أضعاف، فيما اكتفت بلديات أخرى بثلاثة لا أكثر. فتفاوتت قيمة الرواتب بين البلديات بشكل كبير".
ويتابع: "إذا أخذنا المعدل الوسطي لرواتب موظفي البلديات قبل الأزمة والذي كان يقدّر بمليون وثمانمئة ألف ليرة لبنانية (1800.000 ل. ل.)، لوجدنا أنه تغيّر على النحو التالي: في أحسن الأحوال، أصبح مضروباً بسبعة، أي أنه أصبح: اثني عشر مليوناً وستمئة ألف ليرة لبنانية (12.600.000 ل.ل.)، ما يعادل مئة وأربعين دولاراً أميركياً بحسب سعر الصرف الحرّ. وفي أسوأ الأحوال بقي في بعض البلديات على حاله، إذ لم تتمكّن بلديات كثيرة من إعطاء موظفيها أي زيادة، فبقي (1.800.000 ل.ل.) ما يعادل عشرين دولاراً أميركياً بحسب سعر الصرف الحرّ. فكيف يمكن لشخص أن يعيل أسرته مهما كان عدد أفرادها بأقل من 0.7 دولار في اليوم؟!!
لذلك، لم يعد أمام رؤساء البلديات إلا حلّان، إما التساهل في حضور الموظفين، أو تأمين بدل مادي إضافي يضمن استمراريتهم. وفي هذا السياق يتساءل: لماذا سمحت وزارة الداخلية لبعض البلديات بإبرام اتفاقات مع منظمات غير حكومية، تقضي بإتمام الأعمال الإدارية والمالية التي تكدّست جراء غياب الموظفين؟ تلك المنظمات تدفع لموظفيها خمسة عشر دولاراً أميركياً في اليوم. لماذا لا يُعطى هذا المبلغ للموظف البلدي؟ وهو الأجدر بإتمام عمله والأغنى خبرة في مجاله. ثم، من ناحية أخرى، ألا يفتح هذا الإجراء باب تسريب المعلومات والبيانات الرسمية، أو نقلها؟ هل تقدّم الـ NGOs أموالها كهبة لوجه الله؟ أم أنها تسعى لامتلاك المعلومات؟!
بالعودة إلى مشكلة تدني الراتب، يصرِّح العشي أن بلديات عديدة لم تتمكن من إعطاء أي زيادة لموظفيها، حتى إنها حجبت عنهم مرغمة كل التقديمات بما فيها بدلات الطبابة والاستشفاء والمساعدات المدرسية وغيرها بسبب ضيق موارد الدخل، فكيف تطلب ممن فقد أمنه الاقتصادي والصحي والمعيشي أن يلتزم بالحضور اليومي؟! لذلك، يتساهل معظم الرؤساء في ضبط دوام الموظفين، ولا يطالبونهم بأكثر من يومي عمل في الأسبوع. في المقابل، تسعى البلديات بشكل جديّ إلى الحصول من وزارة المال على السلفة النقدية التي أقرتها الحكومة لتغطية زيادة الرواتب، لكن الوزارة لم تلتزم حتى اليوم بهذا القرار. ما زالت المراسلات مجمّدة والزيادات محجوبة عن أصحابها.
هذا إدارياً، أما في ما خص الأمن، فيقول: "لم يعد بإمكان عناصر الشرطة البلدية تنفيذ كل المهام التي تطلبها وزارة الداخلية، ففي الآونة الأخيرة رمت على كاهل البلديات همّ متابعة موضوع اللاجئين السوريين، بالإضافة إلى الدوريات وضبط المخالفات، والتشدد بتدابير السير، وغيرها. كل هذا يشكّل تحدياً مستحيلاً في ظلّ هذه الأوضاع".
ليعود مزهر، وهو أحد مسؤولي جهاز الشرطة في بلدية الناعمة- حارة الناعمة، ليؤكد أن عدد عناصر الدوريات انخفض إلى النصف أو أقلّ، وحال العناصر المنتشرة ليس أفضل من حال الدوريات، وعسى ألا يزداد الوضع سوءًا.
ثم يُبدي رئيس اتحاد بلديات الشوف الأعلى تفاؤلاً ملحوظاً حين يقول إن الإيجابيات تتغلب في منظومة العمل البلدي على سلبيات الأمر الواقع. فموظفون كُثُر يسكنون في النطاق البلدي ذاته، وغالباً ما يكونون من أبناء هذا النطاق، لذلك نجدهم يهرعون لتلبية حاجات المواطنين بمحبة واهتمام رغم كل الظروف.
ثم عن الإنماء، يجيب: "نحن نعرف حجم الأزمة، لذلك لا نريد أموالاً للإنماء، بل نطالب بالحدّ الأدنى، وهو إنصاف الموظف للحفاظ على استمرارية العمل وأن تتعامل الجهات الحكومية مع البلديات كشركاء وليس كمنافسين".
أما برأي مزهر، فلا خيارات متاحة سوى الاستمرار بدوام جزئي للموظفين بانتظار الحلّ الشامل.
ختاماً، سألت أحد المواطنين: هل لاحظتم انعكاساً سلبياً لتدني رواتب موظفي البلديات على أدائها بشكل عام؟
فقال: "يُحكى أن سفينة شحن غرقت فور إبحارها من أحد الموانئ. نجا كل من على متنها، لكن صاحبها جن جنونه، وكيف تغرق سفينة حديثة الصنع، مكفولة الجودة، عالية التقنية؟! فأحضر غواصين مختصين للكشف عليها.
سرعان ما تبين لهم أن الأخشاب السفلية خالية من المسامير. فقام ذلك الرجل الثري بجمع الطاقم للتحقيق في القضية. لكنّ أحد البحّارة اختصر الوقت واختزلَ تتابُع الأسئلة واعترف بكل صراحة أنه فاعلها. والسبب أنه كان يتقاضى أجراً لا يكفيه لإعالة عائلته، فكان يعمد إلى سحب بعض المسامير بعد كل رحلة ليبيعها في سوق الخردة، فيتمكن من إطعام أولاده...".