قبل مقابلته الأخيرة مع فوكس نيوز، كانت الأسئلة الحائرة تفوق المتاح من الإجابة. فولي العهد السعودي مُقلّ في الظهور بعالم ألِف الحضور الإعلامي الدائم لقادته.
الأجندة السعودية تزدحم بالأحداث والمناسبات، فلا يكاد يمر يوم من دون تطور يستجلب علامات الاستفهام والتعجّب والإعجاب. ورغم أن البيانات الرسمية تفي بالشرح، ينتظر الناس من القيادي وضع الصورة في إطارها والأمور في نصابها.
التوقيت نصف السياسة، ومقابلة الأمير محمد بن سلمان، أحيطت بأكثر من مناسبة. فقد عاد الأمير للتو من قمة العشرين في نيودلهي، حيث أعلن مع الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الهندي ورئيس الإمارات وعدد من القيادات الأوروبية مشروع المسار الاقتصادي بين الهند وأوروبا مروراً بالأراضي الإماراتية والسعودية والأردنية وفلسطين المحتلة.
جاء هذا المشروع مفاجئاً لبعض، وصادماً لبعض. خاصة المشاركين في مشروع درب الحرير الصيني. فبطبيعة الحال، يمر المسار الجديد بدول أخرى، لحسن حظه تتميز بجاهزيتها واستقرارها وقدرتها على البدء الفوري والاستكمال أسرع، وبشكل أكمل لإضافة الأنابيب والكابلات وسكك الحديد.
ومن الأحداث المواكبة، دعوة السعودية للمشاركة في مجموعة بريكس التي تضم حالياً الدول المؤسسة، الصين وروسيا والهند والبرازيل. وشملت الدعوة دولاً وازنة، هي الإمارات ومصر وإيران وإثيوبيا والأرجنتين.
أثار هذا الإعلان قلق المعسكر الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، خاصة وقد سبقه انضمام الرياض إلى منظمة شنغهاي ودول آسيان والاتحاد الإفريقي وأوبك بلاس، بمستويات عضوية تتفاوت بين مراقب وشريك حوار، وعضوية كاملة.
وسر القلق، أن السعودية، وهي حليف سابق للغرب، وشريك استراتيجي حالي، تميل بوصلتها شرقاً وجنوباً باتجاه دول وتكتّلات سياسية واقتصادية وأمنية منافسة. ورغم تأكيد الرياض حرصها وحفاظها على علاقاتها التاريخية والوثيقة بأميركا وبريطانيا وكندا ودول الاتحاد الأوروبي، إلا أن سياسة الحياد الإيجابي والتوازن الدولي والتعاون مع كافة الأقطاب بدون تحيز، لا يبشرهم بخير.
وقبل أيام من اللقاء التلفزيوني، كان وفداً حوثياً رفيع المستوى يرافقه وفد عماني، يعقد مفاوضات سلام وصفت بالناجحة في الرياض، ويلتقي بوزير الدفاع والمشرف على الملف اليمني، الأمير خالد بن سلمان.
الزيارة كانت مفاجئة، لليمنيين كما لبقية العالم. خاصة أن زيارة مماثلة لوفد سعودي عماني لصنعاء قبل أشهر لم توصف بمثل هذا النجاح. ويثير المراقبون تساؤلات عن غياب الشرعية وبقية المكونات اليمنية، وتداعيات ذلك.
في الوقت نفسه كان الأمير محمد بن سلمان يقوم بزيارة "خاصة" في طريق عودته من الهند إلى سلطنة عمان، استمرت أياماً، لم يعلن عنها مسبقاً، ولم يرشح عنها أية تفاصيل، اللهمّ إلا عناوين عريضة وتغطية مختصرة.
وخلال الشهور الماضية تواردت أخبار عن مبادرة أميركية لتوثيق العلاقات الأمنية والاستراتيجية مع السعودية، وتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، مقابل اتفاقية دفاعية، وتخصيب اليورانيوم في برنامج نووي سعودي بمشاركة أميركية، وتنازلات تاريخية من تل أبيب لحل القضية الفلسطينية.
وبقدر وضوح السعودية في ما يتعلق بادارتها لسوق الطاقة الدولي مع شركائها في أوبيك بلاس، لا تبدو الرؤية بنفس الوضوح للمراقب الغربي في الموقف السعودي من الحرب الروسية الأوكرانية والشراكة الاستراتيجية مع الصين وروسيا.
ففي عيدها الوطني الثالث والتسعين، تتراكم وتتداخل الأسئلة : ماذا تريد السعودية؟ وماذا يريد رقمها الصعب، الأمير محمد بن سلمان؟ وإلى أي اتجاه تمضي قوافلها ورسلها وفي أي مرافئ ومحطات ترسو سفنها وقطاراتها؟
ولم تتأخر الإجابة، فقد كانت ردود الأمير مباشرة، واضحة، صريحة، بقدر ما كانت دبلوماسية، هادئة، سلسلة. فعندما سئل عن موقفه من البرنامج النووي الإيراني، قال إنه غير مفيد لهم، فلا أحد يستطيع أن يستخدم السلاح النووي دون أن يستعدي العالم. ولما سأله المذيع ماذا لو حصلت ايران على السلاح النووي أجاب بلا تردد وبكل ثقة وهدوء: سنضطر للحصول عليه لتحقيق التوازن الاستراتيجي والأمني في المنطقة.
وعندما سئل عن حاجة السعودية لاتفاق أمني مع الولايات المتحدة رد بأن واشنطن بحاجة إلى شريك قوي في الشرق الأوسط، والسعودية أكبر مشترٍ للسلاح الأميركي بما يعنيه ذلك من تشغيل للمصانع وتوفير للوظائف. أما الرياض فسترتاح من صداع البحث عن شركاء آخرين ومصادر سلاح أخرى. والإشارة واضحة هنا إلى من يحتاج الآخر أكثر.
اما عن قضية خاشقجي، فقد أوضح الأمير أن السعودية حاكمت المتورطين وسجنتهم، وعملت في نفس الوقت على مراجعة وتصحيح الأنظمة التي سمحت بهذا الخطأ. تماماً كما فعلت أميركا بعد أخطائها في العراق … حاكمت وعاقبت وراجعت. ودليل نجاح المملكة أن هذا الخطأ لم يتكرر.
ما لم يقله الأمير (والحر بالإشارة يفهم) أن أميركا التي تحاضر العالم في قضايا حقوق الإنسان لم تحاكم أو تعاقب كل المتورطين، ولم تراجع أو تصحح أنظمتها، وكررت ارتكاب جرائمها في أفغانستان.
كما كشف القائد السعودي أسباب الاستثمار في الرياضة، لمصلحة المواطن، ودعم السياحة، ورد على من يصفها بعملية غسيل سمعة بأنه إذا كانت ستعود على البلد ولو بواحد في المئة من الدخل القومي، فليسمّوها ما يشاؤون ... لا يهم. علما بأن النسبة المحققة والمستهدفة من الرياضة والسياحة والثقافة أضعاف ذلك.
أما عن اليمن، فقد بين أن السعودية كانت وما زالت أكبر الداعمين للجارة الشقيقة منذ عقود. وفي السنوات الأخيرة ساهمت بحصة الأسد في المساعدات الإنسانية والحكومية. والإشارة التي لم يفصح عنها هنا هي أن الذين يتباكون على اليمن لم يقدموا حتى ما التزموا به من مساعدات.
وفي الملف الإسرائيلي، أكد سموّه بتفاؤل حذر أن الخطوات تتقدم على طريق حل القضية الفلسطينية وتطبيع العلاقات السعودية. فإن قبلت تل أبيب بتحقيق مطالب واحتياجات رام الله فلا عائق يمنع قيام علاقات طبيعية مع بلاد الحرمين وقرابة الملياري مسلم.
أما مسألة التعامل مع نتنياهو واليمين الإسرائيلي فليست مشكلة، لأن بلاده لا تتدخل في شؤون الآخرين، وتتعامل مع القيادات التي تختارها شعوبها.
ولعل المقصود هنا أن هذا هو المبدأ الذي تصر عليه المملكة في تعاملاتها مع الآخرين: احترام الخصوصية الوطنية وعدم التدخل في الشأن الداخلي.
امتدح الأمير الرئيس الأميركي بايدن فقال إنه يحضّر جيداً لاجتماعاته ومركّز في طروحاته، كما أثنى على الرئيس الصيني الذي قال إنه يسعى لمصلحة بلاده. وانتقد الغزو الروسي لأوكرانيا من حيث المبدأ، لكنه أشار إلى قلق الروس من تحركات الناتو في محيطهم. كما أثنى على تعاون موسكو في تحقيق الاستقرار في سوق الطاقة.
وانتهز الفرصة ليذكّر المذيع بأن اإران كانت عضواً في أوبك بلاس ووافقت على قرارات تخفيض الإنتاج في عزّ خلافها مع المملكة. فالمسألة تتعلق بالعرض والطلب وتحقيق استقرار سوق الطاقة لمصلحة المنتج والمستهلك معاً، وليس دعماً لروسيا أو تسييساً لسلعة النفط.
وفي ما يتعلق بدعوة مجموعة بريكس، كشف الأمير أن السعودية سعت إلى الانضمام لمجموعة دول السبع الصناعية، ولم يلقَ طلبها قبولاً، فلما جاءت الدعوة من مجموعة أخرى رحبت بها. فالهدف تحقيق تكامل اقتصادي وتنمية موارد وتبادل مصالح وليس حلفاً عسكرياً أو تكتلاً قطبياً معادياً.
وذكّر سموّه بأن كلا المجموعتين أعضاء في قمة العشرين، وأن في بريكس دول صديقة وشريكة للغرب، كالهند والبرازيل، وكذا الأعضاء الجدد.
ونبه الأمير إلى أن اقتصاد الصين مهم لإستقرار الاقتصاد الدولي، وفشله فشل للجميع بما في ذلك أميركا. وأتصور أن الرسالة هنا أنه ليس من مصلحة أميركا التحريض على الاقتصاد الصيني واستقطاب العالم ضده، لأننا جميعاً في مركب واحد.
كما شكر للصين مبادرتها لحل الخلاف السعودي الإيراني. ولعل المقصود هنا أنها دولة مسؤولة تسعى لتحقيق الاستقرار والأمن والسلم العالمي.
المتابع للشأن السعودي، والمستوعب لأهداف القيادة السعودية وشخصيتها، والمدرك لمقاصدها وأسلوب طرحها، سيسهل عليه قراءة الرسائل التي حملتها مقابلة الأمير محمد بن سلمان مع قناة فوكس الإخبارية. ولعلي من خلال هذه القراءة، حسب فهمي للنص وصاحبه، أُسهم في توضيحها.
السعودية اليوم تحت ميكروسكوب العالم، بما في ذلك نشاطها الرياضي والسياحي والترفيهي والثقافي، واستقبال الجماهير الإيرانية الأسطوري لنادي النصر السعودي ونجمه البرتغالي كريستيانو رونالدو استدعى سؤالاً لرئيس وزراء المملكة عن علاقة الأمر بالتوافق السعودي الإيراني والقوة الناعمة. وعلى هذا فقِس كل نشاط مهما بدا عادياً أو صغيراً على أجندة حافلة صاخبة مؤثرة.
السعودية تستحق الاهتمام الكوني، والكون يستحق التوضيح. شكراً سموّ الأمير.
@kbatarfi