محمود القيسي
"ولقد تزول الحرب عن أرض بها شبت
وتبقى فوقها الأشلاء…
جرت الدموع على دماء قد جرت...
وجرت على تلك الدموع دماء
ورأيت في الصبح الشيوخ جميعهم...
يدعون لو نفع الشيوخ دعاءُ".
* جميل صدقي الزهاوي
تقول آخر نكتة روسية مترجمة عن فروق التوقيت على مساحة روسيا الاتحادية الشاسعة، والاغتيالات السياسية والعسكرية الشائعة التي غيّرت مجرى الحروب والتوقيت: "في اجتماع الرئيس بوتين مع حكومته أخيراً، ناقشوا فروق التوقيت بين شرق روسيا وغربها و إلغاء "المناطق الزمنية"، وجعل الدولة الروسية كلها منطقة زمنية واحدة... قال وزير الدفاع: عندما أكون نائماً يتصل بي محافظ سيبريا لأمر هام. دخل وزير المواصلات على الخط قائلاً: نحن لدينا مشكلة كبيرة في جدول مواعيد حركة القطارات قاطبة... حسم القيصر بوتين الموضوع بلهجة حاسمة: كل ما تتحدثون عنه ليس مشكلة، المصيبة أنني عندما اتصلت بزوجة بريغوجين لتعزيتها، كانت طائرته لم تقلع من المطار بعد. كان لا يزال يقرأ الأخبار على موقع "روسيا اليوم"... روسيا بعد ساعة!
في عام 1932 كلفت عصبة الأمم والمعهد الدولي للتعاون الفكري في باريس عالم الفيزياء الشهير ألبرت أينشتاين بإدارة حوار مع شخصية عالمية حول أي مشكلة يختارها هو بنفسه، وقد اختار أينشتاين الحرب أسبابها، وطرق منعها موضوعاً للنقاش، حيث كان يرى في الحرب أنها المشكلة الخطيرة التي تهدد البشرية، وتنبئ بمصيرها المحتوم في الزوال بسبب ما تمتلكه من أسلحة مدمرة وفتاكة، وكذلك بسبب النزعة العدوانية المتأصلة في الطبيعة البشرية؛ وكان من المنتظر أن تكون الشخصية العالمية التي سوف يختارها مفكراً سياسياً، أو شخصية دولية مختصة في شؤون الحرب والعلاقات الدولية، إلا أن أختيار أينشتاين كان غير متوقع، حيث وقع الاختيار على عالم النفس الشهير سيغموند فرويد.
نعم، اختار أينشتاين عالم النفس الشهير بسبب إعجابه الشديد بشخصية فرويد وشغفه بها، كما أنه لا يخفي اطلاعه على مؤلفات فرويد وآرائه في علم النفس، وتحديداً كتابه "قلق الحضارات" الذي يكشف عن الانسجام بين "رغبتين" عند الإنسان المسكون بالرعب والخوف، وهي "غريزة الحروب التدميرية" من ناحية، و"غريزة حب البقاء" من الناحية النفسية الأخرى. كان يثني على فرويد إخلاصه العميق لهدفه في تحرير الإنسان من شرور الحرب وويلاتها، كما كان أينشتاين يرى أن هناك قادة روحيين ومعنويين (كالمسيح وغوته وكانط) حاولوا النهوض بمشروع دائم للسلام بين الدول والقضاء على آفة الحرب، لكنهم بالرغم من كونهم رجالاً عظماء؛ كان تأثيرهم ضئيلاً على مصير الأمم الذي هو في أيدي سياسيين تحكمهم نزعة الحروب ورغبة السلطة المطلقة الدائمة.
كان فرويد ينظر إلى العنف كنزعة متجذرة عند الإنسان وعقله الباطني، فالعنف سابقاً كان عنفاً أحادياً هو عنف القوي المنتصر، لذلك فإن اتحاد الضعفاء المتمثل بالقانون يضع حداً لهذا العنف، لكن بدورها فإن دورة العنف لن تتوقف، وستنتج عنفاً من نوع آخر في مجتمع يتكون من عناصر قوى غير متكافئة، وهذا يعني تجدد العنف من جديد عندما يعمد اتحاد الضعفاء إلى توظيف القوة أو القانون لصالحهم. لا يمكن اقتلاع العنف من جذوره يقول فرويد، ولا يمكن قمعه بصورة كاملة. فإن كانت تحكم الإنسان نزعتان للبقاء والتدمير وتتجاذبانه في الصراع، فإنه يمكن للإنسان تصريف نزعة التدمير في قنوات خارج الحروب والصراعات تماماً مثل "طاقة الليبيدو" التي تمدّ الغريزة الجنسية بالحيوية، يمكن تصريفها خارج الذات في الحياة وفي الأعمال الإبداعية.
إلا أن العدوانية بنظر فرويد ضرورية لتعزيز الوحدة والانسجام بين أبناء الأمة والجماعة الواحدة، فلا بد من وجود عدو أو خلقه؛ كي لا تكون هذه العدوانية بلا هدف وترتد إلى الذات ويكون هدفها الوحيد العدوان والتدمير. فكل هوية أو جماعة بشرية تحتاج دائماً إلى الأعداء لكي تحفظ أمنها ووحدتها الداخلية. هنا سيصبح الإنسان مجرد رقم في الجماعة، أو ترس في آلة تحرّكها الأيديولوجيات والهويات القاتلة، فلا توجد حرب ظالمة وأخرى عادلة فالحرب هي الحرب، لكن البشر يمنحونها مسمّيات أخلاقية وفقاً لعواطفهم ومصالحهم وعقائدهم الموروثة أو المكتسبة، أو وفقاً لأجندات خارجية تأخذ الشعوب إلى أكثر الأماكن المظلمة في الكهوف الأفلاطونية... ومسالخ التسويات الدولية الكبرى على مساحة الحروب والخرائط المحروقة، دون مراعاة فروق التوقيت... بين حرب وأخرى.
هل يصح القول إن لكل شيء مرة أولى... وإن لكل شيء مرة أخيرة؟ للمفارقة، أو مجرد مفارقة، فإن أول حرب قبل التاريخ المسجل حدثت في منطقة تقع ضمن حدود العالم العربي اليوم، وجرى التعرف إليها من خلال الحفريات التي وُجدت في منطقة "جبل الصحابة" الواقعة على حدود السودان الشمالية مع مصر. هذا الموقع الآن غارق تحت بحيرة ناصر الصناعية، واكتشفه عالم الآثار الأميركي فريد ويندورف عام 1964. في أحدث تحليل للهياكل العظمية الـ61 التي عُثر عليها في الموقع، وُجد أن من المرجح أن المنطقة شهدت أول حرب حقيقية في تاريخ البشر. أما في العصر الحجري الحديث، فكانت الأمور أوضح قليلاً. عُثر على عدة مواقع في أوروبا تشي بحدوث حوادث عنف جماعي مميت استهدفت ثقافة الفخار الخطّي (Linear pottery culture) التي استوطنت وسط أوروبا في الفترة ما بين 5500-4500 قبل الميلاد، وسُمّيت تلك الثقافة بهذا الاسم بفضل تقنيتهم الخاصّة في حفر الخطوط على الفخار والقبور.
سهّل اختراع الكتابة في مرحلة العصر النحاسي معرفتنا للحروب اللاحقة بدقة أكبر. كان اختراع العربات ذات العجلات التي تجرها الأحصنة (Chariots) علامة فارقة في تاريخ حروب منطقة الشرق الأدنى ومصر. هنا ظهرت بشدة الرغبة في "التوسع" لدى الإمبراطوريات، وتعرضت مصر وحدها للغزو والاحتلال من كل من الهكسوس، والمقدونيين بقيادة الإسكندر الأكبر، وكذلك النوبيون والآشوريون. من الغريب أن يدفع الاستقرار الإنسان إلى اتخاذ العنف وسيلة للحفاظ على هذا الاستقرار، في عالم كانت موارده وفيرة، وسكانه معدودين، لم تسلم الجماعات من الهجمات والغارات للاستيلاء على ما تملك. ويبدو أن التاريخ لا يُعيد نفسه فحسب، بل إنه في الحقيقة سلسلة متواصلة من العنف والقسوة لا تنتهي. تُرى، هل تُعيد حروب اليوم تشكيل المستقبل كما غيّرت حروب الماضي من حاضرنا؟ أم هل نحن نعيش المأساة والمهزلة معاً؟
عقد “إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية” حلقة نقاشية، يوم الثلاثاء الموافق 16 مايو 2023، بعنوان “Future Warfare: التحولات المتوقعة في حروب المستقبل”، استضاف خلالها دكتور آش روسيتر أستاذ الأمن الدولي بجامعة خليفة، أبو ظبي. وقد تطرقت الحلقة النقاشية إلى تأثير التكنولوجيا على أشكال الحروب في المستقبل، والخصائص والاتجاهات المتوقعة في تلك الحروب، كما قدمت الحلقة مقترحات لتحسين قدرة الدول على التعامل معها.
"تأثير التكنولوجيا"... أشار روسيتر في البداية إلى أن طبيعة الحرب لم تتغير؛ فهي تتعلق بصراع بين المصالح باستخدام العنف لأسباب سياسية، مضيفاً أن هذا هو الفهم الكلاسيكي لماهية الحرب. ونوّه روسيتر بأن "طبيعة الحرب لن تتغير في المستقبل"، لكن شكل الحرب هو ما يتغير باستمرار. ولفت روسيتر إلى أن التحولات في شكل الحروب لا تعني التغيير الخطّي، ولكن التغيير المتسارع.
وفي هذا الإطار، سلّط روسيتر الضوء على عدد من الجوانب التي يمكن للتكنولوجيا التأثير من خلالها على أشكال الحروب في المستقبل وأنماطها. وفي ما يأتي استعراض لأبرز ما تم التطرق إليه في هذا الصدد:
1– إحداث التكنولوجيا طفرات متسارعة بأدوات الحروب: أكد روسيتر أن بعض الحروب شهدت طفرات في ما يتعلق بالأدوات التي استُخدمت خلالها، وأن الاستخدام السابق للأسلحة النووية في الماضي كان يعد بمنزلة ثورة، وأشار إلى أن التقدم المتسارع في مجال التكنولوجيا والتقنيات العسكرية، أسهم في حدوث تحوّل في شكل الحرب، وذلك على المستويين: الأفقي (انتشار هذه القدرات على مستوى الدول كافة) والعمودي (انتشار هذه القدرات لدى الفاعلين من غير الدول، كالجماعات العسكرية المسلحة، والميليشيات الإرهابية).
2– وجود عوامل بشرية مؤثرة بالحروب بجانب التكنولوجيا: شدد روسيتر على أنه على الرغم من التكنولوجيا وما لها تأثيرات ضحمة وممتدة على أشكال وأدوات الحروب، ولا يمكن لأحد أن ينكر أهميتها في تشكيل عالم اليوم، ويوجد اهتمام كبير في الوقت الحالي بالحروب في عصر الروبوتات؛ فإنه يجب الأخذ في الاعتبار أن التكنولوجيا لا تحدد كل شيء، ولا تؤثر في كل شيء.
3– استخدام الفاعلين من غير الدول الأسلحة المتقدمة: أفاد روسيتر بأن الانتشار الواسع النطاق للتقنيات العسكرية المتطورة، سمح بمشاركة أطراف جُدد في الحروب والصراعات العسكرية المسلحة؛ وأنه أضحى أيضاً بإمكان جهات فاعلة أخرى من غير الدول الوصول إلى قدرات عسكرية متطورة، واستخدامها على نحوٍ يخدم مصالحها، كالطائرات المسيرة على سبيل المثال لا الحصر.
4– تزايد مخاطر الحرب الإلكترونية: أكد روسيتر أهمية متابعة التطورات في الحرب الإلكترونية أو ما سمّاه “الحرب الإلكترونية السرية (Covert warfare)”؛ وذلك لسببين؛ أولهما اقتران الحروب الحديثة بالتفوق الكبير الذي يشهده عالم اليوم في المجال الإلكتروني. فيما يكمن السبب الآخر للمخاطر المتزايدة للحرب الإلكترونية في إمكانية توظيفها عبر نطاق واسع... كتعطيل شبكات الجيل الخامس، وهو أمر تتزايد خطورته مع كثافة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي (AI)، وإنترنت الأشياء (IoT)، وغيرهما من التطبيقات التكنولوجية الحديثة.
5– توظيف الطائرات المسيرة أو الدرونز بصفتها سلاحاً ذا حدين: أكد روسيتر أنه رغم الدور المهم الذي لعبته الطائرات المسيرة أو الدرونز في توجيه ضربات عسكرية أدق للهدف العدو، ثمة جانب سلبي لا يمكن التقليل من خطورته، يترتب على الاستخدام الواسع النطاق لهذا النوع من الأسلحة، وخصوصاً في ظل انخفاض تكلفة إنتاجه.
"اتجاهات متوقعة"... تطرق روسيتر إلى عدد من الاتجاهات الرئيسية ذات الصلة بالشكل الذي من المتوقع أن تكون عليه "حروب المستقبل"، ويمكن الإشارة إلى أبرز ما تناوله في هذا الصدد عبر ما يلي:
1– تراجع عنصر المفاجأة الاستراتيجية في الحروب وخصوصاً في عصر تكنولوجيا الاتصالات والتنصت والمراقبة الذكية في ثورتها الرابعة حالياً... والخامسة تطل من نافذة هذا العالم.
2– تزايد حروب الاستنزاف وطول أمد الصراعات: حيث إن من أهم الحقائق التي رسختها الحرب الأوكرانية، فكرة “حروب الاستنزاف”، وأنه “لا توجد انتصارات سريعة في الحروب”.
3– نجاح أي دولة ما في تطوير قدرات فائقة من الذكاء الاصطناعي على نحوٍ لا يمكن لدولة أخرى مواكبته؛ قد يغري هذا الدولة بشن "الضربة الأولى" و"خصوصاً المنافسة المحتدمة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين" دون فروق التوقيت.
4– استمرار أهمية القدرة العددية للجيوش في الحروب: وعلى هذا النحو، يؤكد روسيتر أن التكنولوجيا العسكرية لا يمكنها أن “تحل محل كل شيء”.
5– سعت الجيوش و"الجماعات المسلحة" باستمرار للاستفادة من الخبرات المختلفة للحروب، ومن ثم "تجهيز نفسها والاستعداد لأي حرب وشيكة في المستقبل".
وختاماً، أشار روسيتر إلى أن الحديث عن التحولات التي من المتوقع أن تشهدها (الحروب) والصراعات في (المستقبل)، لا تعني بالضرورة أنه سيتعين على الدول والحكومات استبدال كامل جيوشها أو مقدراتها من الأسلحة والذخيرة والعتاد العسكري، بمعنى التغيير الجذري الذي هو أمر يصعب تصوره بطبيعة الحال، وإنما في المقابل مواكبة التطورات المتلاحقة، والتعاطي الأمثل معها، ولا سيما في ما يتعلق بما تطرحه التقنيات العسكرية الحديثة من فرص، و"ما تفرضه من تحديات مستقبلية".
استهلّ بول شار، خبير الأمن والدفاع الأميركي ورئيس ومدير الدراسات في "مركز الأمن الأميركي الجديد" كتابه، "جيشٌ بلا آمر: الأسلحة المسيّرة ذاتياً ومستقبل الحرب"، بسرد وقائع الليلة السادسة والعشرين من أيلول/ سبتمبر 1986؛ وهي إحدى ليالي الحرب الباردة التي أوشك العالم فيها أن يصيبه الفناء، لولا التفطّن البشري المبكر للكولونيل السوفياتي ستانيسلاف بيتروف. ففي مطلع ربيع تلك السنة، أطلق الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان مبادرة الدفاع الاستراتيجي "حرب النجوم"، بصفتها درعَ دفاعٍ صاروخي. وردّاً على ذلك، نشر السوفيات نظام الإنذار المبكر بوساطة الأقمار الصناعية "أوكو" (Oko)، للإبلاغ عن أي إطلاق صاروخي أميركي محتمل. وبعد مضيّ منتصف الليلة بقليل، وبينما كان بيتروف ماكِثاً في خندقه سربوخوف-15 خارج موسكو، انطلقت صافرات الإنذار، وومضت شاشة "الإطلاق" الحمراء العملاقة ذات الإضاءة الخلفية، محذرةً بيتروف من أنّ الأميركيين أطلقوا الصاروخ النووي الأول على الاتحاد السوفياتي، ثمّ الثاني، فالثالث، فالرابع، فالخامس... إلخ. وهو هجوم صاروخي أعلنه نظام الإنذار بكثيرٍ من الثقة، ومن دون أي تردّد. وفي مثل هذه الحالات، كان على بيتروف أن يسارع لإعلام قادته بالهجوم؛ على اعتبار أنه لم يبقَ سوى ثوانٍ معدودة للاستجابة وللتفكير في ما ينبغي فعله في حال تعرّض بلدهم حقاً لهجومٍ نووي.
لقد كان العالم على شفا حرب عالمية ثالثة، وكان الاتحاد السوفياتي على شفا مصير شبيهٍ بالمصير الياباني بعد هجوم بيرل هاربر الشهير في عام 1941. لكنّ شيئاً من ذلك لم يحدث. فقد أنقذ السوفيات سؤالٌ طريف تبادر إلى ذهن بيتروف: لماذا تطلق الولايات المتحدة الأميركية خمسة صواريخ فقط؟ فالأمر لم يكن منطقياً؛ إذ كان يمكن أن يحدث هجوم مباغت هائل، أو ضربة قاضية تسحقُ الصواريخ السوفياتية على الأرض. وكل ما كان بيتروف في حاجة إليه هو مزيد من المساءلة الذهنية، ومزيد من الوقت، ومزيد من المعلومات لم يمنحها نظام الإنذار لنفسه. وقد أثبتت الرادارات الأرضية، في عقب كلّ ذلك، أنّه كان إنذاراً خاطئاً سبّبته أشعّة الشمس المنعكسة فوق قمم الغمام والعالم النائم.
في الواقع، تلخص القصة الجدل الذي أثارته الأسلحة الفتاكة المسيّرة ذاتياً كلياً (Lethal Autonomous Weapons, LAW)، ومدى قانونية احتكارها لقرارات الحياة والموت. والأهم من ذلك أنها تلخص ما ستكون عليه "حروبٌ مستقبلية مأهولة بمثل هذه الأسلحة"؛ وهو جدل حاول المؤلف أن يعرضه في هذا الكتاب بكثيرٍ من التفصيل والسلاسة، عبر الأقسام الستة لكتاب "جيشٌ بلا آمر". وهو يأخذنا طوال أسطر الكتاب، بصفته محللاً للسياسة المدنية بمكتب وزارة الدفاع بالبنتاغون، وقائداً للمجموعة التي صاغت السياسة الأميركية الرسمية بشأن استقلاليّة الأسلحة، في جولة داخل أروقة شركات الدفاع المطوّرة لصواريخ ذكيّة، ومخابر البحث التي أجرت بحوثاً طلائعيّة حول تقنيّة "الاحتشاد"، ويُطلعنا على اعتقاد المسؤولين الحكوميين والعسكريين الأميركيين بشأن السياسات المتعلقة بمنظومات "الأسلحة المسيّرة ذاتياً"، وعلى رفض الناشطين لذلك. إنها جولةٌ في تكنولوجيا المستقبل، وعالم جيل الأسلحة الروبوتيّة القادم الآخذ في التطوّر سريعاً، بعيداً عن المناقشة والمساءلة العموميّة... والتوقيت.
هل ساحة العلاقات الدولية في حقبة ما بعد ويستفاليا: أرض خصبة لنوع جديد من الحروب؟ في السابع والعشرين من شهر فبراير عام 2014، كان الجو بارداً وشتوياً في شبه جزيرة أوروبية، وبدا كل شيء طبيعياً حتى تغير ذلك. وصل غرباء مجهولون في وحدات عسكرية منظمة تنظيماً جيداً، وكان عددها يفوق بسهولة عدد القوة التقليدية المسؤولة عن الأمن ما أجبرها على الانسحاب. بعد يوم واحد، استولت القوة المجهولة على المطار الرئيسي في شبه الجزيرة ورفعت علماً أجنبياً فوق قبة البرلمان. عند استجواب الجنود الذين نجوا من هذا الهجوم حول هوية الغزاة، أجابوا بأنهم لا يعرفون، إذ لم يكونوا يرتدون شارات أو زياً موحداً محدداً، كما كان من الصعب معرفة البلد الذي ينتمون إليه. يبدو هذا السيناريو مستوحى من فيلم خيالي، لكنه حدث في العالم الحقيقي. في عام 2014 ، غزا “Little Green Men” شبه جزيرة القرم، واستولوا على مطار سمفروبل، ورفعوا العلم الروسي فوق البرلمان الإقليمي. عندما سُئل بوتين عما إن كان هؤلاء الرجال المجهولون من الروس، أجاب بالنفي. ماذا يمكن أن يفعل المجتمع الدولي انتقاماً؟ لا شيء!
لا شيء، أو كل شيء من هذا كله! سوف تجده في "الخلفية العميقة" مما يدور في الوقت الراهن، من حرب روسية أوكرانية فوق الأراضي الأوكرانية، منذ أن اجتاحت قوات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أرض أوكرانيا المجاورة، وسوف تجده على وجه التحديد في شخصية الرئيس بوتين، وكذلك في قناعاته السياسية التي لا يخفيها. إنه يجلس على رأس دولة تتمدد على مساحة تصل إلى 17 مليون كيلومتر مربع، وهي مساحة تصل إلى ضعف مساحة الولايات المتحدة نفسها تقريباً، ومع ذلك فإنه لا يداري حنينه؛ لا فقط إلى الاتحاد السوفياتي السابق الذي نام في أيامه على 24 مليون كيلومتر مربع، وإنما يحن الرجل إلى أيام روسيا القيصرية السابقة على الاتحاد السوفياتي السابق ذاته!
هذه هي الفكرة كلها في حنينه إلى أيام الاتحاد السوفياتي مرة، ثم إلى زمن روسيا القيصرية مرة ثانية، ففي المرتين سيكون عليه أن يراعي "فروق التوقيت". وحين تعود قواته إلى قواعدها قبل الاجتياح، أو حين تصل هذه الأزمة إلى نهايتها، سيتبيّن وقتها ما إذا كان قد راعى ذلك بالفعل، أم لم تكن هذه الفروق في اعتباره ولا في حسابه، هناك فروق توقيت بين العصر الذي نعيشه والعصر الذي قام فيه الاتحاد السوفياتي، إلى أن اختفى، ثم هناك فروق توقيت بين العصرين وزمن روسيا القيصرية، وهذا كله لا بد أنه كان يشغل بال الرئيس الروسي منذ دخل الكرملين، ولكن المشكلة ليست في ما يشغله، بل في ما يفعله!
في مقالة نشرها سيغموند فرويد تحدث فيها عن ثلاثة جروح نفسية كبرى أذلت غرور الإنسان وطعنته في نرجسيته، وجّه فرويد دعوة إيجابية حتى نتصالح مع هذه الجروح لكي نتخطاها لأن أبجديات المعالجة تبدأ بالتعايش مع العلة أو المرض وليس إنكاره أو تجاهله أو عدم قبوله وتقبله.
وأولى الطعنات كانت على يد نيكولاس كوبرنيكوس، الذي قال بأن الأرض ليست مركز الكون بل ولا محوراً لهذا العالم وأنها مجرد جرم صغير يدور في فلك مجموعة شمسية تضم العديد من الكواكب تفوق الأرض مساحة وأهمية.
هذا الاكتشاف كان بمثابة صفعة للإنسان الذي كان يظن ويعتقد أنه أهم ما في هذا الكون، وأن جميع الكواكب بما فيها الشمس كانت تدور حول أرضه وبيته كنوع من التعظيم والتقدير لشأنه.
لم يمر على هذه الصفعة وقت طويل حتى أتتها طعنة ثانية وكان أثرها أكبر وأكثر وقعاً وتسبّبت بجرح بيولوجي على يد تشارلز داروين حيث كان يعتقد الإنسان قبل نظرية داروين أنه ينحدر من نسل الإله وأن أصوله سماوية علوية سامية تميّزه عن باقي المخلوقات والكائنات الأخرى على الأرض.
داروين ضرب في مقتل نرجسية الإنسان لما أخبره عبر نظريته بالتحلي بالتواضع لأنه مجرد نوع متطور من فصيلة مملكة الحيوان الكبرى “الهومو-سابيينس” الذي انتقته وانتخبته الطبيعة لأنه تطور جينياً وكان قادراً على التأقلم والتكاثر في البيئة والمحيط الموجود فيه ومنه.
الجرح الثالث على يد فرويد نفسه حيث أذل عنجهية النفس البشرية حينما أرجع كل أفعالها وتصرفاتها إلى رغبات مكبوتة لاواعية وغرائز لاشعورية مدفونة بقعرها، فقد استنتج أن جوهر الإنسان الحقيقي هو اللاوعي المتحكم بكل القرارات والتصرفات من خلف ستار وعي واهٍ، ظاهري وخادع. وبذلك يكون فرويد قد دق آخر مسمار في نعش النرجسية والغرور والكبرياء الإنساني التي فقدت مع كوبرنيكوس وداروين وظهرت حقيقتها.
النظريات الثلاث أخرجت الإنسان من حالة الطمأنينة والجمود الذي كان يعيش عليه وفيه بفعل معتقداته الدينية أو مسلماته الأيديولوجية أو الفكرية القديمة، ودفعت به إلى عالم جاف وقاس عليه أن يصارع وحده بعدما سلبت منه راحته النفسية التي كانت تتكل على آلهة علوية ويرمي عليها أحماله وأثقاله، فأصبح يواجه الطبيعة للبقاء ومعرفة معنى وغائية وجوده. كما أنها أفرغته من كل غاية نبيلة وسامية وجعلته يعيد السؤال والتساؤل حول قلقه الوجودي وهو المنتظر لموته المؤجل.