كان من المفترض أن تنطلق من ساحة رياض الصلح باتجاه وزارة الداخلية، يوم السبت في 30 أيلول، "مسيرة الحريات"، لمطالبة الدولة بأجهزتها كافّة، خاصّة النيابات العامة، "بالتوقف عن الانحياز لمصلحة الطرف الأقوى، والتزام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية في دستور لبنان وتصديقه على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يكفل حرية الرأي والتعبير، حرية الفكر والوجدان، والدين والمعتقد، والتجمع والمشاركة في الشؤون العامة وإنشاء الجمعيات".
لكن شباناً اعتدوا على ناشطين كانوا يحاولون الوصول إلى الساحة، وتوعّدوهم بالضرب إذا أكملوا المسيرة. فتحت شعار "اِحمِ عائلتك"، انطلقت مسيرة دراجات نارية من تحت جسر الكولا. وقد جاء في الدعوات للمشاركة فيها أنّها تنطلق "لفرض القيم والعرف وفرض الأخلاق الصحية والصحيحة، منعاً لأيّ مسيرة تنادي بحقوق المثليين".
"وخرج الناشطون المحاصرون في وسط بيروت بمواكبة أمنية بعد ساعات عصيبة قضوها محاصرين ومهدّدين بالاعتداءات. وناشد الناشطون مراراً وزير الداخلية التدخل الفوري وتأمين خروجهم، قبل أن تتمكن الآليات العسكرية من سحبهم. وقد أصيب عدد منهم بنوبات هلع نتيجة التهديد والاعتداءات اللفظية، ومهاجمة الآليات التي لجأوا إليها، كما أفيد عن ملاحقة صحافيين وناشطين في أزقة وسط بيروت، وتحطيم زجاج إحدى السيارات".
وأفاد "تجمع نقابة الصحافة البديلة" عن "تعرّض عدد من الفرق الإعلامية لاعتداءات ممنهجة من قبل أفراد مدنيين كما من قبل قوى الأمن الداخلي، وذلك خلال أداء الزملاء واجبهم المهنيّ في تغطية مسيرة الحريات في وسط بيروت اليوم".
تتجمّع في الحادثة عوامل ثقافية واجتماعية وسياسية مترابطة ومتساندة.
بيان المسيرة لم يذكر على الإطلاق المثلية الجنسية في كلامه على الحريات، ومع ذلك تذرّع الهجوم "الأهلي" بحجة أن المسيرة تدافع عن المثلية. على الأرجح أنّ منظّمي المسيرة لا يستثنون حقوق المثليين من مجموع الحريات التي يدافعون عنها. لكن لماذا جرى التركيز فقط على هذه الحقوق في الهجوم على المسيرة؟
من عادة الثقافة المجتمعية التقليدية أن تفكّر أوّل ما تفكّر في الجنس، كلّما تكلم أحدهم عن الحرية أو عن التحرّر بشكل عام. الحرية الجنسية هي أكثر ما يُخيف مناهضي الحريات في المجتمعات المحافظة والمتديّنة؛ فهم يعرفون تماماً أن أحد مفاتيح التحرر هو التحرّر الجنسي، ولجم نزعة التحرر عند الإنسان، تمرّ بالكبت الجنسي.
ردة الفعل إذن هي "عادية" إلى حدّ ما. غير أن المسيرة كانت واضحة في مطالبها، في ظرف تتعرّض فيه حرية الرأي والتعبير إلى هجوم شرس ومتكرّر بوتيرة متصاعدة من السلطة وأجهزتها، بما فيها القضائية. فلماذا رهاب المثلية يطغى على الخوف على الحريات بشكل عام؟
المجموعات التي هاجمت أفراد المسيرة ذات نزعة دينية متزمتة، سنية أو شيعية (قيل إنها أتت من الطريق الجديدة والضاحية الجنوبية). والبعض أشار إلى مشاركة مجموعة "جنود الرب" المسيحية. جميعها تلقى تعاطفاً في بيئاتها الاجتماعية، في ما يتعلّق باضطهاد المثليين. وهذا ما ظهر مجدداً بعد الحادثة، في وسائل التواصل الاجتماعي. موقف هذه الجماعات من المثليّة أكثر حدّة وشراسة من موقفها من القتل أو القمع أو السرقة، وهي تستخدم العنف في مناهضتها للمثلية، كما أن هذه الجماعات وشريحة واسعة من بيئاتها تربّت على الخضوع والتبعية لما يتمّ تلقينها من عقائد وأفكار، وليس لديها حساسية على قمع الحريات، وبالأخصّ حرية الرأي والتعبير.
سبق لي أن لاحظت أن هذه الجماعات وبيئاتها الحاضنة هي "مثليّة اجتماعياً" حتى العظم. فأفرادها يلتفون حول من يعتقدون أنّه مثلهم: أي أفراد العائلة أو العشيرة أو المذهب أو الطائفة... ويقفون بمواجهة عنيفة في الكثير من الأحيان مع من يعتقدون أنه ليس مثلهم. من الملاحظ، في بلدان العالم، أنه كلّما تفكّكت هذه "المثليّة الاجتماعية"، المبنية على علاقات القرابة والدين، وأعطت مكانها لأشكال متنوعة وحديثة من التفاعل والتضامن الاجتماعي، أصبحت المثلية الجنسية مقبولة أكثر.
يبقى هذا السؤال الجوهري عن سبب انزعاج مناصري "المثلية الاجتماعية" إلى هذا الحد من المثليين جنسياً. فما هي هذه " الجريمة العظمى" التي يرتكبونها، من خلال ممارستهم لمثليّتهم، بحبّ وسلام، ودون إلحاق الأذى بالآخرين؟ لماذا يواجهونهم بهذا الكمّ الهائل من الحقد والغضب والكراهية؟
يعتقد البعض أن هذا الموقف المتشدّد مردّه مخالفة المثليين لتعاليم الله. لكن لماذا لا يكون الموقف بهذه الحدّة عندما يتعلق الأمر بمخالفة تعاليم الله الأخرى، كالقتل والسرقة من جهة، وممارسة الجنس خارج إطار الزواج، من جهة أخرى؟ هل لأن هذه المخالفات هي لصالح الرجل بشكل عام في مواقعه المجتمعيّة المختلفة؟ يلاحظ علم النفس أيضاً أن الأكثر تعصباً ضد المثليين جنسياً هم الذين لديهم ميول مثليّة لا واعية. مع قبولي بهذه الفرضيّات، يبدو لي أن المسألة أشمل وأعمق من ذلك.
أعتقد أن "خطيئة" المثلي الأصلية هي أنه يحرّر إلى أقصى الحدود الرغبة من عقيدة التخصّص الجندريّ، واللذة من وظيفة الإنجاب، والحبّ من قوالب الزواج.
فهل هذا الثلاثي: الرغبة واللذة والحبّ، الذي أدّى دوراً تاريخياً لدى الأسوياء قبل المثليين، في تحرير الثلاثي الآخر، الجنس و الزواج والعائلة، من الإكراه والكبت والنفاق، هو ما يُرعب، حراس وسجناء "المثلية الاجتماعية"؟
حرية الرغبة واللذة والحب، ومن خلالها الحرية الشخصية، هي التحدّيات الكبرى، التي يرفعها المثليّون، بوجه "المثلية الاجتماعية". صحيح أنّهم يرفعون هذه التحدّيات بتحدٍّ مستفزّ أحياناً، وصحيح أن هناك نزعة في الغرب تروّج للمثليّة، مع ما يرافق ذلك من تباهٍ وتعبير عن الشعور بـ"الفخر" بالميول الجنسية المثليّة. يمكن تفهّم هذا الموقف من جماعة اضطهدت تاريخياً ولا تزال، بسبب ميولها الجنسية، وحاجتها بالتالي لردّ اعتبارها. لكنّها بذلك تكاد تسقط بما سقط فيه مضطهدوها، أي اعتبار نفسها الأصحّ، والآخرين "شاذين".
على أهمية العوامل المجتمعية والثقافية في إلقاء الضوء على جوانب من حادثة الاعتداء على "مسيرة الحريات"، إلا أن العامل السياسي ليس غائباً، وفق ما يبدو عليه الأمر في المشهد المرئي؛ ولو أنه لا يفعل فعله من دون العوامل الثقافية والاجتماعية أعلاه. فقبل أيام قليلة من المسيرة، حذّرت صحيفة "الأخبار" التابعة لـ"حزب الله" من دوافع المسيرة، زاعمة أنها مدعومة من رأسمالي أميركي تموّل مؤسّسته جمعيّات مدنيّة لبنانية، وأن هدف الحملة الحقيقي هو الدفاع عن المثلية تحت شعار الدفاع عن الحريات، التي باتت في "خطر". وقد وضعت الصحيفة كلمة خطر بين هلالين للتشكيك بصحة القول.
وهذا هو بيت القصيد. فالصحيفة ومن يقف وراءها، أي "حزب الله"، والسلطة التابعة له، وبالتضامن والتكاتف مع كافة المراجع الدينية، تريد إيهام الرأي العام بأن الحريات بألف خير، ولا حاجة أبداً للدفاع عنها بوجه السلطة، التي تقضم حثيثاً ما تبقّى من هذه الحريّات. وليس اعتداء بعض رجال الأمن على ناشطين وصحافيين في المسيرة، وعدم اعتقال أيٍ من المعتدين، إلا أحد مؤشرات تواطؤ السلطة مع هؤلاء.
قرار تنظيم "مسيرة الحريات" لم يأتِ بالصدفة، بل نتيجة تراكم أحداث التعدّي على الحريات، والحاجة إلى ردّ أشمل ممّا كان يجري حتى الآن، أي إطلاق مواقف عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر الندوات.
فمنذ فترة ليست ببعيدة، وقّع عدد كبير من النواب بياناً اتّهموا فيه السلطة بالتحوّل إلى دولة بوليسية، وكان ذلك يعبّر عن انطباع عام يسود البلاد نتيجة تزايد التعدّيات على الحريات من الجهات القضائية والأمنية في حينه. وقد تكرّرت الممارسات البوليسية أخيراً بوجه الإعلاميين الأحرار. وكان كلّ ذلك يستدعي تنظيم مثل هذه المسيرة لرفع مستوى الاعتراض والتدليل على خطورة الوضع، لا سيما أنّ هذه الممارسات كانت تترافق مع تدابير يتّخذها وزير الثقافة، تنمّ عن رغبة في قتل روح الثقافة بما هي تعبير عن إنتاج فكريّ حرّ.
فلماذا تركنا "مسيرة الحريات" لقمة سائغة في فم الغول على بعد أسبوعين من ذكرى ١٧ تشرين، التي انطفأت لأننا لم نتجرأ في حينه على تسمية ومواجهة الطرف الذي قمعها؟ لماذا كان الناشطون قليلي العدد في غياب جميع النواب الذين انتقدوا الدولة البوليسية؟ فهل ننتظر خانعين ضمور الحريات الواحدة بعد الأخرى؟