اختارت الأكاديمية الفرنسية أمين معلوف أميناً عاماً لها، وهي أعرق مؤسسة ثقافية في فرنسا، ومن أعرق صروح الثقافة في العالم. وكانت السلطة الفرنسية قد اختارت سليمان فرنجية مرشّحاً لها لرئاسة الجمهورية، قبل أن تتراجع عن هذا الترشيح، مبدئيّاً، بفعل معارضة هذا الترشيح، داخلياً وخارجياً.
معلوف وفرنجية لبنانيان
الأول صحافيّ وروائيّ، هاجر إلى فرنسا في بدايات الحرب، حيث أكمل حياته حتى أيامنا هذه. كتب بالفرنسية، وانتُخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية، ونال جوائز أدبية عديدة.
فرنجية نائب سابق ورئيس ميليشيا "المردة"، ابن الراحل النائب طوني فرنجية، مؤسّس ميليشيا "المردة"، الذي اغتالته ميليشيا الكتائب هو وعائلته، باستثناء ابنه سليمان، في إطار الصراع على الهيمنة بين الميليشيات المسيحية، إبان الحرب. جدّه سليمان فرنجية الذي كان رئيساً للجمهورية.
معلوف آتٍ من عالم الثقافة والأدب، وفرنجية ترعرع في عالم السياسة والميليشيا. معلوف هجّرته الحرب التي اندلعت أيام عهد فرنجية الجدّ، والتي رسّخت زعامة فرنجية الحفيد، كما زعامة قادة الميليشيات الأخرى، وجعلته لا يغادر لبنان إلا لتلبية دعوة سياسية أو للسياحة والاستجمام. فرنجية هو حليف النظام السوري، ومرشح "حزب الله"، الذي ينتمي إليه وزير الثقافة، حامل لواء ثقافة المنع باسم الدين والتقاليد؛ هذه الثقافة التي تزدري في جوهرها ثقافة أمين معلوف ومنابعها الفرنسيّة.
فرنسا النظام الجمهوري الديموقراطي، فرنسا الثورة الفرنسية وعصر الأنوار، اختارت المهاجر اللبناني حارساً أميناً لثقافتها.
فيما فرنسا النظام الرأسمالي، الاستعماري سابقاً، اختارت لنا نحن المواطنين القابعين في لبنان، سليمان فرنجية كمرشح لرئاسة الجمهورية، في إطار تسوية سياسية-مالية، على ما يبدو، مع النظام الإيراني وممثله في لبنان "حزب الله".
لم تجد "فرنسا النظام الرأسمالي" ذات الخلفيّة الاستعمارية أفضل من سليمان فرنجية ليحكمنا نحن اللبنانيين. إنها تنظر إلينا كشعب منقسم مذهبياً وطائفياً، وتابع لزعامات تدير البلاد بالوكالة عن بلدان خارجية. تلغي فرنسا من ذاكرتها أن قسماً كبيراً من هذا الشعب انتفض في ١٧ تشرين ٢٠١٩ على فرنجية وأمثاله.
لا ترى فرنسا أن النظام الجمهوري الديمقراطي، الذي ينظّم الحياة السياسية في فرنسا، يليق بنا نحن اللبنانيين، فتشجّع الحوار بديلاً من الانتخابات، نزولاً عند رغبة "حزب الله"، الذي يعطّل الانتخابات، ويرفض الأساس الذي تقوم عليه الديموقراطية، وهو أن الشعب مصدر السلطات وليس الوليّ الفقيه.
فرنسا "الحرية والمساواة والإخاء" لا تُعير اهتماماً لحريّاتنا الفرديّة والجماعيّة كمواطنين لبنانيين، ولا تجد أنّنا نستحقّ المناداة بالمساواة الطبقية والجندرية وبين الأجيال، فتدعم ترسيخ هيمنة حزب، لا تُعير عقيدته وممارساته أيّ قيمة لهذه القيم المسمّاة "غربيّة". أما قيم الإخاء بين أفراد الإنسانية جمعاء، التي أسّست لها العلمانية، فهي لا تتجاوز عند "الحزب" ومرشّحه الإطار العائلي والمذهبي والديني، حتى ولو ادّعت بعض أفواه مناصريهم عكس ذلك.
اختيار أمين معلوف أميناً عاماً للأكاديمية الفرنسية تقدير كبير من مؤسّسة ثقافيّة عريقة للبنانيّ فرنكوفونيّ مهاجر. أما اختيار السلطة الفرنسية سليمان فرنجية كمرشح أوّل لرئاسة الجمهورية في لبنان فهو تحقير للمواطنين اللبنانيين الذين يقطنون لبنان، وبمثابة رمي في سلة المهمّلات لقيم وأفكار وتراث الأكاديمية الفرنسية.
بعد أن أصبح أمين معلوف حارساً لهذا التراث الثقافي، ربّما وجب عليه تتويج مسيرته الأدبية بروايتين استلحاقيتين؛ الأولى تكمّل روايته "الحروب الصليبية كما يراها العرب"، برواية أخرى بعنوان "الحروب الرأسمالية كما يراها مهاجر لبناني في فرنسا"؛ والثانية تكمّل روايته "التائهون"، التي يحدّثنا فيها عن متاهة اللبنانيين إبان الحرب، فتحمل عنوان "المنفصمون"، وتتحدث عن انفصام الإنسان الغربي-الفرنسي، حين يتعلّق الأمر بالتوفيق بين سعيه لتأمين مصالحه المادية على حساب الشعوب الأخرى، ورفعه لشعار "حرية، مساواة، إخاء".
سليمان فرنجية لبناني-سوري وأمين معلوف لبناني-فرنسي.
"أنا لبناني" يؤكّد لي متسوّل وهو يمدّ يده، اعتقاداً منه أنني سأعطف عليه أكثر إن لم يكن سورياً.
إنّها ثلاث "هويّات قاتلة في هوية واحدة". ربّما كان على أمين معلوف أن يعنون على هذا الشكل نصاً استلحاقياً لكتابه "هويات قاتلة". وربّما كان من الأفضل أن يكتب هذا الكتاب مواطنٌ لبناني لم يهاجر، لأنه لم يشأ ذلك، أو لأنّه لم يستطع. فالقتيل هو الأجدر بكتابة كتاب كهذا.