فرحتُ بعملية "طوفان الأقصى"، التي نفذتها "حماس"، كما فرح الشعب الفلسطيني المقهور، وكما يمكن أن يفرح أي إنسان بعمل يقوم به مقهور ضد قاهر متغطرس.
مصدر الفرح هو على مستوى الشعور وعلى مستوى الإدراك. على مستوى الشعور، نفرح بانتفاضة مقهور على قاهره، لا سيّما أن هذا القاهر محتلّ ومتغطرس، يرتكب الجرائم منذ أكثر من سبعين سنة بحق الشعب الفلسطيني وشعوب عربية كثيرة، فيما هو يتلقى الدعم والتأييد من الدول الكبرى والكثير من بلدان العالم. أما على مستوى الإدراك، فنفرح بالقدرات التكنولوجية التي جسّدتها العملية العسكرية التي قام بها الفلسطينيون، والتي سمحت باسترجاع، وربما موقتاً، مساحة من الأرض المحتلة؛ ذلك أن غطرسة القاهر تتغذّى أيضاً من تفوقه العلمي والتكنولوجي.
فرحت بالعملية البطولية، لكن سرعان ما تبدّدت سعادتي عندما بدأت أفكّر بمآلها على القضية الفلسطينية، التي نُفّذت العملية باسمها.
لا أريد أن أتكهّن بمآلها العسكري بين حماس وإسرائيل، من حيث استرجاع مساحات من أرض فلسطين المحتلة، لكن علينا أن نتوقع جرائم كبرى وتدميراً هائلاً ستقدم عليها حكومة نتنياهو اليمينية أو المطعّمة بشخصيات من المعارضة، لا سيّما إن حصل اجتياح بَريّ لغزة. فعملية حماس غير المسبوقة من حيث حجم الخسائر الإسرائيلية والاستنكار العالمي الواسع لها، جعلت من إسرائيل ضحيّة؛ والتصريحات الأميركية المبرِّرة مسبقاً للرد الإسرائيلي، وإرسالها أسطولَها البحريّ للمساندة، تفتح المجال واسعاً أمام عمليات انتقامية لا تُحاسب عليها إسرائيل، لا داخلياً ولا خارجياً، بالرغم من الحذر الذي قد تسبّبه لها رغبتها في الحفاظ على سلامة الأسرى الإسرائيليين لدى "حماس".
كما أنني أتوقّع، وهذا شبه حتميّ، أن تسيطر حماس على الضفة الغربية، وتالياً على السلطة الفلسطينيّة، بعد العملية التي نفّذتها والهالة والتقدير اللذين حظيت بهما فلسطينياً وإسلامياً. وهذا بغض النظر عن النتائج الميدانية للعملية وتبعاتها البشرية والمادية.
وربما كان هدف الاستيلاء على السلطة الفلسطينية هو أحد الأبعاد الاستراتيجية للعملية. يذكّرني ذلك بحرب تموز اللبنانية، التي تسبّب بها "حزب الله"، ودمّرت قرى وبلدات الجنوب والضاحية الجنوبية وقتلت أهلها وهجّرتهم. لكن "حزب الله" خرج من الحرب بانتصار "إلهيّ" سمح له بالهيمنة لاحقاً على الدولة اللبنانية، بعد غزوة بيروت واحتلالها.
ولأن الانتصار "الإلهي" لم يحوّل لبنان إلى جنة يحكمها الله، كما كان مفترضاً، بل إلى جهنم تحكمها الشياطين، أخاف على فلسطين وعلى الفلسطينيين، إن استولت "حماس" على السلطة فيها. فاستيلاء "حماس" على السلطة في غزة حوّلها إلى ما يشبه السجن الكبير، بعد أن نكّلت بخصومها السياسيين، واحتكرت مصادر التمويل والثروة، وضيّقت على النقابات العمالية، ومارست التمييز ضد المرأة باسم الدين والتقاليد. صحيح أنّ غزة محاصرة من الاحتلال الإسرائيلي، لكن البؤس الفلسطيني في غزة ليس سببه الوحيد إسرائيل؛ تماماً كما أن البؤس اللبناني والسوري ليس سببه الحصار الأميركي وحده كما يروّجون، بل القوى المهيمنة في البلدين.
وتأتي عملية "حماس" بالنسبة لنا نحن اللبنانيين، بعد أحداث مخيّم عين الحلوة، التي تسبّبت بها "حماس" وحلفاؤها من الجماعات الإسلامية المتطرفة، ولم يذهب ضحيتها إلا اللاجئون الفلسطينيون في المخيم، الذين تقاوم "حماس" باسمهم وباسم قضيتهم.
أشار الكثيرون إلى أن توقيت عملية حماس مرتبط بمسار التطبيع العربي مع إسرائيل، وكأنها حصلت، بدفع ودعم إيراني، لقطع الطريق على التطبيع بين إسرائيل والسعودية. قد يكون ذلك صحيحاً؛ وقد يؤدي إلى وقف مسار التطبيع أو إلى تأخيره. لكن من المؤكّد أن حماس فرضت نفسها كمفاوض، قبل التطبيع وبعده. والتفاوض مع إسرائيل سيبدأ حكماً بشأن الأسرى الإسرائيليين لدى "حماس".
حرصت إيران على الإعلان صراحة عن اهتمامها المباشر بما يحصل في فلسطين من خلال اتصال الرئيس الإيراني بالأمين العام لـ"الجهاد" ورئيس المكتب السياسي لـ"حماس"، داعياً "الحكومات المسلمة إلى الانضمام إلى المجتمع المسلم لدعم الأمة الفلسطينية". هذه الأسلمة للخطاب السياسي يتلاقى مع أسلمة عنوان العملية، الذي لم يكن "طوفان القدس أو فلسطين" مثلاً، بل "طوفان الأقصى". وفي هذا كلّه أسلمة للقضية الفلسطينية.
لست من الذين يعتقدون بأن إسرائيل لا تريد لـ"حماس" أن تتسلّم السلطة وتطيح بالرئيس الفلسطيني وبقيادة فتح. فالتفاوض مباشرة مع "حماس"، والتوصّل معها إلى اتفاقات أضمن أمنيا من الاتفاق مع السلطة الحالية، الفاقدة للسيطرة الفعلية على الأرض ولثقة الناس. فلماذا لا تأتمن إسرائيل حماس كما ائتمنت "حزب الله" من قبل، في مسار ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، الذي أدى إلى تطبيع في الواقع، وإن لم يتم بعدُ على الورق؟ لا شكّ في أن إيران ستكون سعيدة بذلك.
من جهتي، ومنذ زمن، لم أعد أخشى التطبيع. فقد أصبحنا في مرحلة التطبّع الذي يتجاوز بخطورته التطبيع، على الشعب الفلسطيني وعلى الشعب العربيّ بشكل عام.
في نص نشرته في كتابي "انتفاضة ١٧ تشرين" بعنوان "التطبّع أخطر من التطبيع يا عزيزي"، أوضحت موقفي على الشكل الآتي:
"ألسنا نتطبّع، إن كنا، مثل إسرائيل، ندعي بأن عنفنا هو للدفاع عن أنفسنا ونستخدمه للسيطرة ولبسط سلطتنا على الآخرين؟
ألسنا نتطبّع، إن كنا، مثل إسرائيل، نعرّف عن أنفسنا وعن غيرنا بحسب هويتنا الدينية؟
ألسنا نتطبّع، إن كنا، مثل إسرائيل، نستلهم الماضي طريقاً للحاضر وللمستقبل؟
ألسنا نتطبّع، إن كنا، مثل إسرائيل، نستعين بمظلومية الماضي لنهيمن على الحاضر؟
ألسنا نتطبّع، إن كنا، مثل إسرائيل، نعوّل على التمويل الخارجي شرطاً لاستمرارنا وتأبيد سلطتنا؟
ألسنا نتطبّع، إن كنا، مثل إسرائيل، جزءاً من مشروع أكبر منا؟
ألسنا نتطبّع، إن كنا، مثل إسرائيل، نهجّر أناساً باسم الدفاع عن مقدساتنا؟
ألسنا نتطبّع، إن كنا، مثل إسرائيل، نقرّر نحن مَن يمثل الفلسطينيين ومَن لا يمثلهم؟
شتّان ما بين أخطار التطبّع الذي لا نكترث له، وأخطار التطبيع الذي نصبّ عليه جام غضبنا.
التطبيع يُبقي التمييز بيننا وبين عدوّنا، حتى لو اعترفنا به وأقرّرنا باحتلاله.
التطبّع في المقابل يجعلنا نشبه عدوّنا، فهو سيبقى معنا وفي داخلنا حتى ولو ذهب الاحتلال.
عندما يصبح الاحتلال طبعنا، وهذا أقصى ما يطمح إليه مَن يحتلنا، نفقد أهمّ وسيلة لمواجهته: السند الأخلاقي والقيميّ ضد ممارساته. وهذه هي الخطيئة الكبرى للمقاومات الإسلامية بحق القضية الفلسطينية.
فهذا السند الأخلاقي والقيمي هو ما يجعل من القضية قضية.
العين على التطبيع، في حين أن الخصال والممارسات قد تطبّعت منذ زمن بعيد".