غسان صليبي
أنجزتُ دراسة حديثة حول ديموقراطية النقابات في لبنان بطلب من "المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين". شملت الدراسة نقابتين: نقابة المعلّمين في المدارس الخاصّة، ونقابة مستخدمي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. رصد البحث الميداني الانتخابات في النقابة الأولى، واشتغال الهيئات النقابية في النقابة الثانية. وتضمّنت الدراسة ثلاثة أقسام: قسماً نظريّاً حول الديموقراطية في النقابات، وقسماً حول الديموقراطية في الحركة النقابية اللبنانية، وبالأخصّ في الاتحاد العمالي العام، وقسماً أخيراً حول البحث الميدانيّ ونتائجه.
أنشر في هذا النصّ خاتمة الدّراسة حول المفهوم المعتمد لـ"القواعد الديمقراطية". مع الإشارة إلى أنني أتحمّل وحدي مسؤوليّة الاستنتاجات أدناه، إضافة إلى أنّ للنقابتين بعض الملاحظات عليها.
1 - قواعد الديموقراطية
على عكس مفهوم الحرية النقابيّة الذي تحدّده تفصيليّاً الاتفاقية الدوليّة ذات الرقم 87، لا يوجد مفهوم معتمد دولياً لديمقراطية المنظمة النقابية. المفهوم الذي نعتمده هنا يستمدّ عناصره من عدّة مصادر: مبادئ الديمقراطية السياسية، الديمقراطية النقابية وَفق ما طُرحت في الأبحاث، الديمقراطية النقابية وفق ما جرى تجسيدها في الأنظمة الداخلية للنقابات، ونقد الديمقراطية وفق ما جرى تطبيقها في المنظّمات النقابية من منظار المشاركة الفعليّة للأعضاء في اتخاذ القرارات، والديمقراطية كآلية لاحترام حقوق الأقليات أو الفئات المهمّشة وضمان تمثيلها. وقد فصّلنا عناصر هذا المفهوم من خلال القواعد الديمقراطية الآتية:
1 – قاعدة الانتساب ونسبته، باعتبار أن نسبة الانتساب هي الأساس الخارجي للديمقراطية التنظيمية.
2 – النظام الداخليّ الذي يضمن المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع الأعضاء.
3 – آلية الانتخاب التي تنصّ على انتخاب الهيئات الدنيا للهيئات العليا عمودياً وأفقياً؛ وبحرية، مع اعتماد التمثيل النسبيّ المرتبط بحجم العضوية في مجال تكوين الهيئات والانتخابات، ومع تقليص الهامش بين الحدّ الأدنى والحدّ الأقصى للنسبة حتى لا تطغى الهيئات الكبيرة على الهيئات الصغيرة. ويجري الانتخاب بالاقتراع السريّ دوريّاً من قبل الأعضاء، ومن بينهم.
4 – الشروط القانونيّة والماديّة لإجراء انتخابات حرّة، عادلة ونزيهة، من دون تدخّل من أيّ طرف خارجيّ، والعمل على مراقبة الانتخابات من قبل طرف خارجيّ مستقلّ ليس ذا مصلحة.
5 – الشفافية في تنظيم لوائح الشطب للانتخابات من خلال تنظيم البطاقة المهنية.
6 – حلّ الخلافات والاعتراضات على نتائج الانتخابات بالطرق القانونية العادلة، وباللجوء إلى القضاء المختصّ.
7 – شروط تداول السلطة من خلال تحديد عدد الولايات للشخص الواحد.
8 – شمول عملية اتخاذ القرارات كافة اللجان والفروع في إطار احترام العلاقة التراتبيّة بين الهيئات العمودية (الجمعيات العمومية، مجالس المندوبين، والمجالس التنفيذية)، على أن تجسّد القرارات المتّخذة إرادة الأكثريّة بالنسبة إلى المسائل كافة.
9 – إطلاع الأعضاء على المسائل كافّة، وعلى الأعمال والنشاطات النقابية، من خلال آلية محدّدة ومقرّرة من المنظّمة، على أن تخضع جميعها إلى مراجعة دوريّة من قبلهم.
10 – اعتماد وتطبيق قواعد إدارة الاجتماعات والمناقشة واتّخاذ القرارات بحسب الأصول المعتمدة في الاجتماعات في المنظمات الديموقراطية.
11 – اتخاذ التدابير الكفيلة بمنع تحوّل المنظمة النقابية إلى أوليغارشيّة، يتولّى فيها القرار والإدارة عددٌ قليلٌ من القيادات، بينما يُصبح الأعضاء الباقون خارج إطار اتّخاذ القرارات وغير مشاركين؛ وذلك عبر التدابير الآتية: فروع ولجان نقابيّة مستقلّة نسبيّاً، وجود معارضة فاعلة وقادرة على استعمال قنوات الاتصال بالأعضاء، وجود جمعيّات في داخل النقابة؛ ولهذه الجمعيات نشاطها وحريّتها في التحرّك من مثل النواديٍ الاجتماعية، والنوادي الرياضيّة والثقافيّة، وتنوّع الوظائف النقابيّة.
12 – مشاركة النساء والشباب (أو فئات أخرى مهمّشة لأسباب إثنيّة، دينيّة، مذهبيّة، قوميّة، جسديّة أو غير ذلك) في النقابات، عبر تدبيرين تنظيمين على الأقلّ:
- اعتماد الكوتا في تمثيل هذه الفئات
- إنشاء لجان خاصّة لتأطير هذه المشاركة وتفعيلها.
13 – التمويل الذاتي من خلال اشتراكات الأعضاء، وإدارة الشوؤن النقابية، العامة والماليّة، وعلى جميع المستويات التنفيذية، بالاستناد إلى مبادئ الحكم الرشيد والرقابة الديمقراطية، في جوّ من الشفافية وبعيداً من الفساد.
2- خصائص "ديمقراطيّة" الانتخابات في نقابة معلّمي المدارس الخاصّة
على ضوء نتائج البحث الميدانيّ، يُمكننا استخلاص الخصائص الآتية لـ"ديمقراطيّة" الانتخابات التي جرت أخيراً في نقابة معلّمي المدارس الخاصّة:
1- اللافت أولاً أنّ المرشّحين والناخبين لديهم انطباع عام بأنّه يصعب وصف هذه الانتخابات "بالديمقراطيّة"، لأسباب يُمكننا استنتاجها من إجاباتهم عن الأسئلة التي طُرِحت عليهم حول مسار العمليّة الانتخابيّة.
2 - إنّها ديمقراطيّة تفتقد إلى دعامتها الخارجيّة، أي التمثيل الواسع للمعلّمين، بسبب انخفاض نسبة الانتساب من جهة، والانخفاض الكبير في نسبة المشاركة في الانتخابات من جهة أخرى.
3 - إنّها ديمقراطيّة تمييزيّة ضدّ النساء، إذ إن تمثيل النساء في مجلس النقابة بالكاد يصل إلى 15 في المئة، في حين أن نسبة النساء من المعلّمين تبلغ 90 في المئة. وهذه ظاهرة قديمة في النقابة، ولا تقتصر على الانتخابات الأخيرة.
4 - إنّها ديمقراطيّة قائمة على الثقة بشخص (رئيس النقابة نعمة محفوض)، مع العلم أن هذه الديموقراطيّة نفسها هي التي أطاحت بهذا الشخص في الانتخابات السابقة، ومن خلال نفس القوى.
5 - إنّها ديموقراطيّة تشهد تأثيراً كبيراً على حريّة الترشّح والانتخاب من قبل أطراف عدّة: إدارات المدارس، و"الكيانات التربويّة" ذات المرجعيّات الدينيّة، والأحزاب السياسيّة.
6 - إنّها ديمقراطيّة تعتمد على إرادة مجالس الفروع في المحافظات أكثر ممّا تعتمد على ما نسمّيه بالجمعيّة العموميّة، لا سيّما أن انعقاد الجمعيّة العموميّة، بحسب النظام الداخلي نفسه، يتم من خلال انعقاد جمعيات عموميّة متفرّقة في كافة الفروع، حيث يبقى تأثير مجالس الفروع حتى في الجمعيات العموميّة التي لا يصلح مدلولها الديمقراطي إلّا بالاختلاط بين أعضاء النقابة كأفراد ومن دون اعتبارات أخرى.
7 - إنّها ديمقراطيّة من دون منافسة فعليّة بين طرفين؛ والأخطر من ذلك هو الافتقاد إلى شروط قيام مثل هذه المنافسة في الظرف الحالي، ممّا انعكس شبه غياب للبرامج المتنافسة.
8 - إنّها ديمقراطيّة الطبقة الوسطى التي طالها الفقر، ممّا يذكّرنا بقول أرسطو إن الديمقراطيّة يمكن أن تقوم في مجتمع تشكّل الطبقة الوسطى السواد الأعظم منه، في ظلّ توزيع متساوٍ للعائدات. وقد بدا جليّاً من خلال أجوبة المرشّحين والناخبين حضور الهمّ المعيشيّ في تفسير التقاعس عن المشاركة النقابيّة.
9 - إنّها ديموقراطيّة لا تجد مكإنّها في بلاد لم يعد فيها سياسة حتى يكون فيها ديموقراطيّة على حدّ تعبير المستجوبين أنفسهم. إنّها ديموقراطيّة لم تعد تجد مبرّرَ وجودها: "ما همّ إن كانت ديمقراطيّة أم لا طالما كلّ شيء معطّل بالبلد"، على حدّ قول أحد المرشّحين الفائزين.
3 - خصائص "الديمقراطيّة" التنظيميّة في نقابة الضمان الاجتماعي
أما بالنسبة إلى الديمقراطية التنظيميّة في نقابة الضمان الاجتماعي، فيمكن ملاحظة الخصائص الآتية:
1 - بالرغم من أنّه - بحسب النظام الداخليّ - يُدير النقابة مجلسان: المجلس التنفيذيّ ومجلس المندوبين، فإنّه مع تعطّل عمل مجلس المندوبين، كما هي الحال منذ انتخابه، تفقد السلطة التنفيذيّة أحد جناحيها الذي يملك سلطة رقابيّة على المجلس التنفيذي.
2 - المجلس التنفيذي لا يجتمع بشكل دوريّ بل عند الحاجة، ويُديره عمليّاً الرئيس وعددٌ قليل من الأعضاء.
3 - الجمعيّة العموميّة لا تجتمع، ممّا يُفقد الديمقراطيّة التنظيميّة قاعدتها، والسلطة التي تستمدّ منها جميع الهيئات صلاحياتها. وإذا كان من المفترض أن يعوّض مجلس المندوبين في الحالات العاديّة عن غيابها، إلّا أنّ تعطيله أفرغ الديمقراطيّة من أيّ سلطة رقابيّة.
4 - إنّها ديمقراطيّة تتأثّر بالإرادات الحزبيّة على حساب الإرادات الفرديّة. ويلاحظ أيضاً تأثيرات لرؤساء المراكز في اختيار النقابيّين، وفي بعض القرارات النقابيّة.
5 - لأعضاء الجمعيّة العموميّة آراء نقديّة بشأن عمل المجلس التنفيذيّ والنقابة ككلّ، لكن لا ترجمة عمليّة لذلك.
6 - هناك شبه غياب لقوى معارضة منظّمة للمجلس التنفيذيّ الحالي، خلال الانتخابات أو في الأوقات العاديّة.
7 - العنصر الخارجي لديمقراطيّة النقابة، أي قدرتها التمثيليّة، لا تشوبه شائبة، بسبب العرف القائم في معظم نقابات المؤسّسات العامة، والقاضي بأن يُصبح المستخدم منتسباً إلى النقابة فور مباشرته العمل، حيث تقتطع الاشتراكات من راتبه مباشرة وبوساطة الإدارة.
8 - لا يُمكن فهم قدرة الأحزاب المذهبية، التي لديها أكثريّة من مذاهبها بين المستخدمين، على السيطرة على قيادة النقابة، من دون الأخذ بعين الاعتبار الانتماءات الحزبيّة أو المذهبيّة لإدارة الضمان ورؤساء المراكز، حيث يجري التنسيق بين المستويين، في حالات الاستخدام والانتخابات وتحقيق المطالب.
9 - لا يمكن فهم إعطاب الديموقراطيّة التنظيميّة في النقابة بمعزل عن إعطاب الديمقراطيّة على المستوى السياسي الوطني، فتكاد الأسباب التي تعطّل اجتماعات مجلس المندوبين والجمعيّة العموميّة تكون هي نفسها التي تعطّل تأليف الحكومات وانتخاب رئاسة الجمهوريّة: العوامل المذهبيّة والطائفيّة، وعدم احترام الدستور والأنظمة، وتسلّط فئات على أخرى.
4 - آفاق بحثيّة
بسبب الإمكانيات المتواضعة للدراسة، لم نستطع مقاربة الموضوع بكلّ تشعّباته وأبعاده. لذلك ارتأينا أن نفتح آفاقاً لنوع كهذا من الأبحاث، التي نتمنّى أن يُنجزها، أو أن يشجّع على إنجازها، المرصد نفسه. وفي هذا السياق، نقترح ما يأتي:
1- من الواضح أن البحث الميدانيّ لم يشمل إلّا جوانب محدّدة من الديمقراطيّة في النقابتين: الانتخابات في نقابة المعلّمين والديموقراطيّة التنظيميّة في نقابة الضمان الاجتماعي. إن دراسة معمّقة للديموقراطيّة تتطلّب توسيع البحث إلى جوانب أخرى، تشمل إذا أمكن "قواعد الديمقراطيّة" الــ13 التي حدّدناها أعلاه.
2 - لا تستقيم دراسة الديمقراطيّة في النقابات من دون مقاربة ميدانيّة لموضوعَي المشاركة والأوليغارشيّة. وقد قدّمنا في القسم الثاني من البحث منطلقات نظريّة لمقاربة الموضوعين. ونقترح رصد هاتين الظاهرتين في مجموعة من النقابات، وفي قطاعات مختلفة.
3 - أشرنا في مقدّمة البحث إلى أنّنا نتبنّى مقاربة ثلاثيّة الأبعاد لفهم العمل النقابيّ، تطال العلاقة بين حريّة وديمقراطيّة وفاعليّة التنظيم. لفهم ديمقراطيّة التنظيم بقواعدها المعتمدة لا بدّ من مقاربة حرّيتها وفاعليّتها. لفتنا إلى بعض قيود الحريّة في القانون والممارسة، لكن المسألة تحتاج إلى المزيد من المعطيات والتحليل، خاصة بالنسبة إلى الفاعليّة النقابيّة، التي ندعو لأن تشكّل موضوعَ رصد مستقلاً إلى جانب الديمقراطية؛ ذلك أن الخيرة هي وسيلة تنظيمية لتحقيق المطالب. ولا تهدف عمليّة الرصد هذه إلى تجميع المعلومات وتعميمها فحسب، بقدر ما تهدف إلى رصد إمكانيات التغيير والعمل، وربّما على الدفع باتّجاهها، من خلال الأطر والوسائل المُتاحة.
4 - توقّفنا في القسم الثاني من البحث عند الديموقراطيّة في الحركة النقابيّة اللبنانيّة، وقد تلمّسنا في بحثنا بعض خصائص هذه الديموقراطيّة في النقابتين المبحوث في ديمقراطيتهما. إنّ دراسة معمّقة للديموقراطيّة في النقابات لا بدّ لها من أن تربط أكثر بينها وبين الخصائص العامة لديمقراطيّة النقابات في لبنان. وقد قدّمنا بعض المعطيات التي تساعد في تحليل هذا الترابط.
5 - كان لافتاً من ممارسات الديموقراطيّة في النقابات تشابهها مع ممارساتها على المستوى السياسي في البلاد. من المفيد التوسّع في هذه المقارنة مع تحديد العوامل المجتمعيّة المؤثّرة في ديموقراطيّة النقابات، وتأثير البنية المجتمعيّة وثقافاتها على بنية وثقافات المنظّمات العاملة فيه. وفي هذا السياق يقدّم القسم الأول من الدراسة حول المنطلقات النظريّة، وفي إطار بحث المشاركة العمّاليّة، عرضاً لثلاث مقاربات يمكن الاستفادة منها حول علاقة المجتمع الكلّي بالمشاركة في النقابات.
6 - أشرنا في القسم الأول أيضاً إلى تأثير العولمة على العمل النقابيّ تحديداً، وإلى أهميّة الانتماء إلى الاتّحادات النقابيّة الدوليّة حتى تستطيع النقابات الوطنيّة مواجهة ضغوطات المؤسّسات الماليّة الدوليّة التي تحدّد السياسات الماليّة والاقتصاديّة في معظم البلدان. ولهذا الانتماء تأثيره على ديموقراطيّة النقابات وتحرّكاتها في آنٍ واحد. من المفيد مقاربة الموضوع مع النقابتين موضوع البحث - وربما مع نقابات أخرى – لا سيّما أن هاتين النقابتين تنتميان إلى اتّحادات نقابيّة دوليّة: نقابة الضمان الاجتماعي تنتمي إلى الاتّحاد الدوليّ للخدمات العامّة، ونقابة معلّمي المدارس الخاصّة تنتمي إلى الاتّحاد الدولي للتعليم.