كان الإغريق في مسرحياتهم الدرامية يرتدون الأقنعة حتى يستطيع الممثل أن يؤدي أكثر من دور، فيكون شيطاناً في مشهد، وملاكاً في مشهد آخر. ومثلهم فعل أهل الحكم وصنّاع الحرب والسلام، منذ ألفي عام، يرتدون الأقنعة، ويتداولون المواقع، حسب المشاهد والمشاهدين.
لكن الأحداث المزلزلة والمفاجئة تربك الحسابات، وتضيّق المساحات، فتطيح أحياناً بالأقنعة، وتكشف المواقع الحقيقية لأصحابها. فنحن عندما نتكلم فكلّنا أصحاب مبادئ، وعندما نعمل فكلنا أصحاب مصالح.
هي أيّام، منذ انطلاق العمليات العسكرية "طوفان الأقصى" من غزة، تبدّت فيها مواقف التأييد الخطابي والسينمائي لأصحابها من قلاعهم في تركيا والدوحة بالسجود شكراً لله، وإعلان النصر العظيم وقرب تحرير الأقصى. ووافق ذلك التصفيق والتأييد جمهور عريض، شركاء وحلفاء… ومتفرّجون. وبعدما ارتدّ الطوفان إلى الداخل، وبلغ السيل الزبى، تراجع الخطاب، وتبدّلت الأقنعة، وبدأنا نسمع من نفس الشخصيّات المدبّرة تبرّؤاً من عمليات قتل وخطف المدنيين الإسرائيليين. ثم تقلّب النص بين تأييد للمجاهدين، وعطف على الضحايا، وعتب على الحلفاء في محور المقاومة، ومطالبة لمن تمّ تجاهلهم من محور الاعتدال بالتدخّل والدعم، وتحريض للجماهير العربية على الخروج إلى الشارع وإعادة عرض فيلم "الربيع العربي" بكلّ تداعياته المدمّرة.
أما الذين توعّدوا إسرائيل بالمحو من الخريطة “في أقرب فرصة” فقد اكتفوا بالدعاء واللطم والتظاهرات في مناطق نفوذهم. فالفرصة التي كانوا ينتظرونها ليست هذه الفرصة، و”الصمت الغامض” هو سلاح اللحظة المدمّر. أما الصواريخ والمدافع وكتائب الأقصى فلا تزال بانتظار فتح الحدود عبر السعودية والأردن، لا عبر الفضاء والبحر، وحدود سوريا والجولان. والتهديد اليوم هو بتحوّل غزة إلى ركام سيشتعل تحت الدبابات والكتائب الإسرائيلية الغازية.
وأما الغرب الذي طالما اعتلى المنابر ليستشرف علينا في قضايا حقوق الإنسان وقوانين الحرب وحقوق المدنيين، فقد أصبح أوّل من يرفض مناقشة وقف التصعيد والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، ويستخدم حق النقض ليسقط أيّ قرار يدعو إلى ذلك في مجلس الأمن. أما قصف المستشفيات والبيوت والمدارس والملاجئ والجمعيات الخيرية الدولية فحق من حقوق الدفاع عن النفس.
ثم هناك الديموقراطية وحرية الرأي والتعبير واستقلالية المؤسّسات الأكاديمية والتعليمية ومهنية الإعلام التي صدعوا رؤوسنا بها بعد أحداث أيلول (سبتمبر) وأيام “الربيع العربي”، وفي كل مناسبة تتوافر لهم لدعم منظمات المجتمع المدني والحراك الشعبي والمجموعات الحزبية والدينية المتمرّدة في الداخل والخارج العربي. وبالرغم من التعالي والادعاء، سقطت كلّ هذه القيم عند أول امتحان في الغزو الروسي لأوكرانيا، ثمّ في الغزو الإسرائيلي لغزة، فحرمت كلّ مظاهر التعبير الحرّ عن الرأي حتى في وسائل التواصل الاجتماعي، وعوقبت الشخصيات والمجموعات التي أيّدت الحق الفلسطيني بالعزل والفصل والتشهير. حتى في جامعة هارفارد، قلعة القانون والاستقلالية العلميّة، يُطالب رؤساء الشركات الداعمة بالكشف عن أسماء الطلاب الذين انتقدوا جرائم إسرائيل حتى يُمنعوا من العمل ويوصموا بدعم الإرهاب.
أين وسائل الإعلام ومنظمات الحقوق المدنية وحتى جمعيات البيئة وحقوق الإنسان التي كانت تتقافز، وتثور، وتحرّض على أيّ بلد عربيّ يدافع عن نفسه فيردّ النار بالنار، كما في حرب اليمن، وتعدّ المباني المهدّمة طوبة طوبة، حسب إحصاءات الطرف المرضيّ عنه طبعاً، وتتجاهل الأحياء التي قُصفت في الجانب الآخر. وتستجيب حكومات الغرب (غالباً بالتوافق المسبق) فتمارس الضغط السياسي والاقتصادي لفرض شروطها ومطالبها وتحقيق غاياتها.
اليوم يُباد آلاف البشر، وتدمّر المستشفيات والملاجئ والمدارس حتى دور العبادة، ويضيق الحصار القائم منذ خمسة عشر عاماً على مليوني عربيّ، حتى يُمنع الطعام والماء والوقود والدواء من دون أن يتكلّف المعتدي تقديم عذر مقنع. وعندما تُرتكب جريمة حرب كبرى، كقصف مستشفى، يكلف رئيس أكبر دولة في العالم نفسه رحلة عبر المحيطات والقارات ليقدّم الدعم للمعتدي، ولينكر نيابة عنه مسؤوليته عن الاعتداء. ثم لا يسمح لجهات أممية بالتحقيق، أو يشاركها أدلته.
أما المؤدلجون والحزبيون والمثقفون العرب، فعودة لا بدّ منها إلى الفلسفة حيناً، وإلى الخطاب الشعبوي حيناً آخر. وفي كلّ الأحوال، لا يكلّف أحدهم نفسه أو أحداً من أبنائه مشاركة المجاهدين قتالهم، أو حتى الخروج في تظاهرات في البلدان التي يدرسون أو يقيمون أو يعملون فيها. أما التبرّعات فتطلب من الجماهير لحساباتهم الحزبية والشخصية. أما حساباتهم هم، المليونية أو المليارية، فلا يخرج منها دولارٌ أو يورو واحد لدعم القضية. المطلوب هو تقديم الغير للأرواح والدماء والأموال… أما هم، فكرسل النذير والعذاب، فوق القانون، فوق المطالبات، فوق التضحيات… لا يُسألون عن فعل، وهم يَسألون.
سقطت الأقنعة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) دفعة واحدة، فتكشّفت عورات، وشاهت وجوه، وتعرّفنا إلى حقيقة أصحابها ومواقفهم ودوافعهم. فحلفاء إيران في محور المقاومة أرادوا إفشال مشروع السلام الذي تقوده السعودية، لأنه سيعود عليها بالمنعة من أيّ تعدٍّ مستقبليّ، وعلى “القضية” التي يتاجرون بها بالحلّ الذي سيغلق دكاكين ويقطع أرزاقاً، وعلى الحكومات والقيادات التي ارتبط وجودها بمشروع التحرير بتحقيق متطلّبات شعوبها وجماهيرها الحياتية والإنسانية أو الاعتزال.
أما الرجل الأبيض فقد خسر منبره العالي، وكشف عن حقيقة نظامه المتعدّد الوجوه، المزدوج المعايير؛ ولم يعد له حق في الاستشراف على غيره في القيم والمبادئ والحقوق. وأما إسرائيل، فقد خسرت قناع الضحية، وجلد الشاة، منذ زمن طويل، وأحرقت ما بقي من ثياب “الديموقراطية الوحيدة، وممثلة الحضارة الغربية في الشرق الأوسط” في حريق غزة. وعلى الذين سارعوا إلى فتح السفارات معها قبل أن يضمنوا حقوق الفلسطينين أن يبادروا إلى استخدام نفوذهم الموعود قبل أن تسقط المزيد من الأقنعة.
@kbatarfi