يخشى الكثيرون من أهلنا في لبنان، من تداعيات طوفان الأقصى ومماحكات "حزب الله" مع إسرائيل. وفي ظنّهم أنّ قواعد الاشتباك المتّفق عليها بين طهران وتل أبيب توشك أن تُخترق وتخرج عن السيطرة، وتتدحرج كرة اللهب شمالاً فتعيد كارثة تموز 2006.
يفاقم هذه الخشية الإحساس المريب بأنّ حلفاء لبنان العرب، وعلى رأسهم السعوديّة، والأجانب، وخاصّة فرنسا، لم يعودوا قادرين أو معنيّين بمهمّة الإنقاذ والدفاع، لبلد استسلم للنفوذ الفارسيّ، وفقد شهيّة المقاومة والتمرّد.
أُشارك أحبّتي اللبنانيّين المخاوف لا التشاؤم. فالسياسة الشرق أوسطيّة أشبه بالألعاب السحريّة والخدع السينمائيّة، ما تراه وتوشك أن تلمسه هو إشغالك وحرف تركيزك عن الواقع الخفيّ.
إيران تقلّبت بين اتفاق صريح مع إسرائيل في عهد الشاه وتوافق باطنيّ في عهد الملالي. فمن خلف الألعاب الناريّة توزيع للأدوار وتقسيم للمصالح والنفوذ. فـ"بعبع" العرب لم يعد الكيان الصهيونيّ الذي لم يدخل حرباً معهم منذ خمسين عاماً. فقد تولّى المهمّة الطاووس المعمّم بعد اتفاقيّة كامب دايفيد للسلام بين مصر وإسرائيل بعام واحد. ففي 1979 قامت الثورة الإسلامويّة بدعم غربيّ تقوده الولايات المتّحدة وبريطانيا وتديرها فرنسا.
وبعد نجاح الثورة بعامين تمّ اغتيال السادات على يد مجموعة إسلامويّة مرتبطة بالحرس الثوريّ الإيرانيّ، وكرم القاتل خالد الإسلامبوليّ علناً في طهران بإطلاق اسمه على أحد أكبر شوارعها.
وكان الدور التالي على العراق، بوابة العرب الشرقيّة، فبادر الرئيس صدّام حسين بالتصدّي للمؤامرة. ورغم الأخطاء والدعم الأميركيّ الإسرائيليّ لطهران، كما كشفته فضيحة "إيران غيت"، إلّا أنّ جيش العراق بشيعته قبل سنّته، وبدعم من دول الخليج التي استشعرت الخطر الإيرانيّ عبر خلاياه وفتنه الطائفيّة، تمكّن من الصمود ثمانية أعوام انتهت بقبول الخميني بقرار مجلس الأمن لإنهاء الصراع.
خلال عقد الثمانينات تمكّن الغرب من استنزاف وإشغال العرب بحرب الخليج والغزو السوفياتي لأفغانستان والإسرائيلي للبنان، حرفهم عن مسيرة التنمية والاستقلال، وأعاد حلفاءه إلى المعسكر الغربي في مواجهة المعسكر الشرقي وحلفائه في المنطقة. وانتهت المرحلة بمنح صدام الضوء الأخضر لغزو الكويت تمهيداً لكسر جيشه المليوني الذي تفرّغ للتوّ لينافس إيران على دور "بعبع" الخليج.
تمّ إنهاء طاووس بغداد المنافس لطاووس طهران بالتعاون معها. وسلّم العراق بالضبة والمفتاح للمليشيات والأحزاب والقيادات الموالية لإيران وأميركا وبريطانيا وإسرائيل، وتمّ تدمير حزب البعث وتفكيك الجيش الوطنيّ، وتسريح القيادات المخضرمة في كلّ تخصّص مدنيّ وعسكريّ.
وبعد التعاون في تكريس المدّ الجهادي ورعايته في أفغانستان والعراق وسوريا، تمّ تمكين القاعدة فداعش، واستخدامهما في ترويع المنطقة وتبرير تدخّل وجود التحالف الفارسي، الغربي، الإسرائيلي، التركي، انشغلت حكومات العرب من جديد في مهام إطفاء الحرائق بالمعدات الغربية والموارد الوطنية بدلاً من مشاريع البناء والتنمية.
ثمّ جاءت مؤامرات "الفوضى الخلاقة" و"إعادة رسم الخرائط وثورات "الربيع العربيّ" وقوانين الكونغرس ضدّ أوبك، ودعاوى عائلات ضحايا هجمات "أيلول/سبتمبر" لتؤجّل كلّ أمل في وحدة عربية وإرادة مستقلة وتكتّل اقتصادي أمني سياسي منافس.
المصالح المتقاطعة قد تتنافر. والشراكات مهما توافقت وترافقت قد تختلف. وما نراه اليوم من تضارب المصلحة في غزة مثال على ذلك. فحماس أسستها إسرائيل في ٨٧ بعد الانتفاضة الأولى، وحافظت على بقائها لتنافس منظمة التحرير بقيادة ياسر عرفات ثمّ السلطة الفلسطينية، فتقسم الصفّ وتبرّر عدم الالتزام باتفاقيات أوسلو ثمّ كامب دايفيد بعذر غياب شريك السلام الواحد، ورفض حماس الاعتراف بإسرائيل.
دخول إيران وأطراف عربية وإقليمية على الخطّ وفّر الحاجة للدعم الماليّ والتورّط العسكريّ، وإن بقي التعاون الاستخباريّ. وباشتعال الساحات بين حين وآخر توحّد الصفّ الإسرائيلي وتواصل الدعم الأميركي والأوروبي. إلّا أّن هناك أخطاراً للعب بالنار وأهمّها اختراق قواعد الاشتباك لأسباب طارئة موجبة. وفي هذه الحالة التطبيع العربي مع إسرائيل ودخول السعودية على الخطّ لإنهاء الصراع وحلّ القضية بشكل جذريّ.
كان لا بدّ لإيران وحلفائها من إشعال المنطقة واستفزاز إسرائيل لقصف غزة وإحراج المطبّعين وإفشال مشروع إحياء مبادرة السلام العربية. وكان لا بدّ لحلفاء الكيان الصهيونى من التدخّل لحمايتها والتغطية على جرائمها والاستفادة من حالة الصراع المستجدة لتوفير منتجات الأمن ومظلّات الحماية بالسعر المضاعف. وبدلاً من عقاب طهران ترفع واشنطن عنها عقوبة بيع النفط لتسمح لها علناً بما سمح لها سرّاً من موازنة سوق النفط نتيجة لمقاطعة النفط الروسيّ.
هل نتوقّع بعد هذا كلّه أن تشارك إيران في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ولو بالردّ على قصف قواعدها وكتائبها في سوريا؟ هل ستسمح لـ"حزب الله" الذي طبّع للتوّ مع إسرائيل في صفقة الغاز والحدود أن يشارك في "طوفان الأقصى"، كما وعدوا حماس (فعليّاً) لا شكليّاً ورمزيّاً وخطابيّاً؟ هل من مصلحة التحالف الإيراني الغربي الإسرائيلي أن يحرق لبنان ويقضي على أقدم وأكبر وأقوى عملاء الجمهورية الإسلاميّة ووكيل المصالح الفرنسيّة؟
في تصوّريّ لا لكلّ ما سبق. فرغم التضارب الداخلي على المصالح بين الشركاء، إلّا أنّ مصلحتهم العليا تقتضي تأطير مساحة الاختلاف في حدود غزّة، والاكتفاء بالمناوشات خارجها، والوصول إلى تفاهم حول مشروع السلام الشامل الذي تعتبره طهران خطراً وجودياً عليها وتحطيماً لمشروعها وتقليصاً لنفوذها وإزاحة لأسباب تدخّلها في شؤون العرب.
لبنان ربما يبدو وكأنّه في عين العاصفة. ولكنّني أرى أنّ ما وراء الأكمة من مخطّطات وتفاعلات لا يسمح بذلك. كما أنّ السعودية مع شقيقاتها، وفي مقدّمتهم الشقيقة الكبرى مصر ودول مجلس التعاون الخليجي والأردن، تضع لبنان في قلبها وعقلها. فبغضّ النظر عن كلّ التحفّظات على أداء مؤسسة الحكم وتغلّب النفوذ الأجنبي، يبقى لبنان عربياً وتبقى سيادته وسلامته مسؤوليّة عربيّة لا استسلام فيها ولا تسليم. لهذا وذاك اعتقد بأنّ لبنان سينجو هذه المرّة. ولكن هل سيتعلّم اللبنانيون الدرس وينتفضون على من وضعهم في قبضة العجم لا حضن العرب؟ هذا هو السؤال.
@kbatarfi