وارف قميحة
رئيس معهد طريق الحرير للدراسات والأبحاث – كونفوشيوس
كانت الصين من أوائل الدول التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية ودولة فلسطين، وظلت تدعم بثبات القضية العادلة للشعب الفلسطيني لاستعادة حقوقه الوطنية المشروعة، وتدفع لإيجاد حل شامل وعادل ودائم للقضية الفلسطينية.
شكّل تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1964 بداية لعلاقة مباشرة بين الصين والفلسطينيين. وقام أحمد الشقيري، زعيم المنظمة آنذاك، بزيارة بيكين في سنة 1965، حيث كانت بكين أول عاصمة غير عربية يرفرف علم فلسطين في سمائها، وتفتتح مكتباً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتفتح أبواب معسكراتها للفدائيين الفلسطينيين وتمدّهم بالذخيرة والعتاد. لكنها كانت أكثر حذراً في التعامل مع طلبات الشقيري بتقديم دعم مادي. فرئيس الحكومة الصينية، شو إن لاي، كان يأخذ في حسبانه عدم وجود إقليم خاص تستند إليه منظمة التحرير، وتستطيع فيه تسلّم التجهيزات الصينية وتقوم بالتدرّب عليها؛ كما كان يأخذ في اعتباره مدى تقبّل الحكومات العربية المضيفة لدعم كهذا. رغم ذلك أدّى شو إن لاي دوراً في مسألة وقوف الصين إلى جانب حركات التحرر العربي من فلسطين إلى الجزائر.
خلال الثمانينيات، ابتعدت منظمة التحرير الفلسطينية عن الكفاح المسلح واتّجهت نحو تسوية سلمية متفاوض عليها، كما تجلّى في إعلان الجزائر في سنة 1988. ودعمت الصين القضية الفلسطينية على الصعيد الدولي، وحثّت إدارة الرئيس رونالد ريغان الأميركية على بدء محادثات مع منظمة التحرير الفلسطينية كما اقترحت في سنة 1984 عقد مؤتمرٍ دولي برعاية الأمم المتحدة لحل القضايا الخلافية بين إسرائيل والعرب، وجدّدت اقتراحها هذا في سنة 1989. وتقيم الصين علاقات مع جميع الفصائل الفلسطينية، بما فيها حركة "حماس" التي رفضت، في سنة 2006، تصنيفها "منظمةً إرهابية"، بعد فوزها في الانتخابات التشريعية.
عندما انتخب شي جين بينغ رئيساً في سنة 2012 تبنّى سياسة خارجية أكثر انفتاحاً، حيث صوّتت الصين إلى جانب أغلبية الدول في الأمم المتحدة، ضد إسرائيل، لمنح فلسطين في سنة 2012 وضعية دولة مراقب غير عضو، قدّم شي جين بينغ في سنة 2013 خطة ذات نقاط أربع أعادت التأكيد على دعم قيام دولة فلسطينية مستقلة تتعايش مع إسرائيل، وعلى كون المفاوضات هي الأساس لتحقيق هذه الأهداف ولإنجاز السلام؛ لكن تصدّرت الديبلوماسية لوزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري الواجهة خلال سنتي 2013-2014، مهمّشة المبادرة الصينية.
خلال سنتي 2019-2020، قدمت إدارة دونالد ترامب الأميركية رؤيتها ذات الشقين لحل الصراع في إطار ما سُمّي "صفقة القرن". وانتقدت الصين خطة ترامب هذه لشعورها بأنها منحازة لمصلحة إسرائيل وتتجاهل التطلّعات الفلسطينية، وشدّدت الصين على ضرورة أن يرتكز أيّ حلّ قائم على أساس الدولتين على مبدأ 'الأرض مقابل السلام'. هذا الموقف كان موضع ترحيب من الفلسطينيين.
مبادرة الصين لتسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي
بصفتها عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي، لم تكن الصين غائبة أبداً في دفع التسوية السلمية للقضية الفلسطينية. وطرح الرئيس الصيني شي جين بينغ رؤيتين من أربع نقاط لحل القضية الفلسطينية في عامي 2013 و2017 على التوالي أعادت التأكيد على دعم قيام دولة فلسطينية مستقلة تتعايش مع إسرائيل، وعلى كون المفاوضات هي الأساس لتحقيق هذه الأهداف ولإنجاز السلام، مشدداً على أهمية السعي إلى حل سياسي على أساس حل الدولتين وحشد الدعم الدولي للقضية الفلسطينية. وخلال الاجتماع الذي عقده مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في 18 تموز 2017، قدم الرئيس الصيني مبادرة لتسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي تكوّنت من أربع نقاط هي:
أولاً- "التحرك بحزم نحو الحل السياسي للصراع على أساس حل الدولتين. تؤيد الصين بالكامل حل الدولتين وإعادة إقامة دولة فلسطين المستقلة، التي تتمتع بسيادة كاملة على أساس حدود سنة 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. تنوي الصين، كعادتها، القيام بدور بنّاء في حل القضية الفلسطينية.
ثانياً- العمل لصالح مفهوم مشترك وعالمي وتعاوني ومستدام للأمن. تدعو الصين إلى التنفيذ السريع لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334 والوقف الفوري لإنشاء المستوطنات في الأراضي المحتلة. تأمل الصين اتخاذ إجراءات فورية لمنع العنف ضد المدنيين.
ثالثاً- زيادة تنسيق وتقوية جهود المجتمع الدولي لصالح السلام. يجب على المجتمع الدولي أن ينسّق أكثر وأن يقدم مبادرات مشتركة من أجل السلام. ولهذه الغاية، ستنظم الصين خلال هذا العام ندوة تهدف إلى جمع المدافعين عن السلام في فلسطين وإسرائيل، من أجل المساهمة بأفكار وحلول للقضية الفلسطينية.
رابعاً- تعزيز السلام من خلال التنمية الاقتصادية. من خلال تعزيز المفاوضات السياسية، من الضروري أيضاً، من أجل التقدم، إعطاء قيمة كبيرة لمسألة التنمية. تنظر الصين إلى فلسطين وإسرائيل باعتبارهما شريكين مهمين في مشروعها "حزام واحد، طريق واحد"، وتعلن استعدادها لإنشاء آلية تجريبية بين الصين وفلسطين وإسرائيل للتنسيق والمضي قدماً لمساعدة فلسطين".
تلبية لدعوة من رئيس جمهورية الصين الشعبية شي جين بينغ، قام رئيس دولة فلسطين محمود عباس بزيارة دولة للصين خلال الفترة ما بين يومي 13 و16 حزيران عام 2023. طرح الرئيس شي جين بينغ رؤية من ثلاث نقاط لحل القضية الفلسطينية، مؤكداً ضرورة إقامة دولة فلسطينية مستقلة وزيادة المساعدات الإنمائية والإنسانية لفلسطين والالتزام بالاتجاه الصحيح المتمثل في مفاوضات السلام، واستعداد الجانب الصيني للقيام بدور إيجابي لتحقيق المصالحة الداخلية الفلسطينية ودفع مفاوضات السلام.
وتُعدّ هذه الرؤية المكونة من ثلاث نقاط وثيقة الصلة بالوضع الراهن، وتتماشى مع ما عرضه الرئيس شي جين بينغ سابقاً وتأخذ في الاعتبار آخر المستجدات، الأمر الذي يعكس الأهمية الكبيرة التي توليها الصين للقضية الفلسطينية وموقف الصين العادل منها.
بتاريخ 24 تشرين الأول 2023 دعا تشانغ جيون، مندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة، إلى وقف شامل لإطلاق النار بين فلسطين وإسرائيل. وقال المبعوث "على المجلس أن يطالب سلطة الاحتلال بالإنهاء الفوري للحصار الكامل على غزة، وإعادة إمدادات المياه والكهرباء والوقود، ووقف العقاب الجماعي للأهالي في غزة ونحث إسرائيل على تهيئة الظروف المواتية للتشغيل الطبيعي لمعبر رفح ووقف الضربات الجوية للمناطق المحيطة به، وضمان عدم إعاقة المساعدات. وقد قدمت الصين مساعدات إنسانية طارئة من خلال السلطة الوطنية الفلسطينية ووكالات الأمم المتحدة على التوالي. وسنواصل تقديم المساعدات العينية بناءً على حاجات أهالي غزة". وقال "يجب على المجلس أن يدافع بحزم عن سيادة القانون الدولي، وأن يدين بوضوح جميع أعمال العنف والهجمات ضد المدنيين، وأن يعارض بشكل قاطع أي انتهاك للقانون الدولي".
وأضاف "نحافظ على اتصالات وثيقة مع الأطراف المعنية ونؤدي دوراً مسؤولاً وبنّاءً في تحقيق وقف إطلاق النار وحماية المدنيين وتجنب وقوع كارثة إنسانية أكبر. وليس لدى الصين مصلحة ذاتية في ما يتعلق بقضية فلسطين. وأيّ مبادرة تسهم في السلام ستحظى بدعم الصين القوي".
التعويل على الدور الصيني
تقوم مقاربة الصين في جوهرها على أنها ليست مضطرة ولا محتاجة إلى تحمّل وزر السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، ويعزز ذلك الاعتقاد بأنه في حال اندلاع نزاع في المستقبل، ستكون الصين قادرة على إعادة صوغ علاقاتها في مجال الطاقة والاقتصاد بما يجنّبها أي تداعيات إقليمية.
الصين تعمل ضمن خطط استراتيجية، وفقاً لسياسة مصالحها العليا، القائمة على السلام والتجارة، ومن المُتوقّع أنْ تُصبح الأولى اقتصادياً في العالم، فأُطلقت مُبادرات للسلام والتنمية والحضارة العالمية، كخريطة طريق للعالم، تسعى لعالم مُتعدّد الأقطاب لا تحكمه الهيمنة، وهي تاريخياً حليف لم تنحَز لطرف في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، ارتكز دورها على التحاور دون مُجابهة. الصين أصبحت لاعباً دولياً، لديها قوّة في الأُمم المُتّحدة، واستثمارات كبيرة في "إسرائيل"، ومصالح اقتصادية مُتبادلة، لذلك تستطيع الصين القيام بدورٍ في هذا المجال. الصين تحتاج إلى الورقة الفلسطينية كي تدعم سياستها الديبلوماسية الصاعدة، ومنها رعايتها المُصالحة السعودية - الإيرانية، وهما لاعبان أساسيان في القضية الفلسطينية، وقدّمت نفسها إلى العالم كوسيط غير مُنحاز وعادل، ومُمكن الاستفادة من هذا الدور الصيني في انتزاع بعض الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، لأنّه لا حلّ للصراع في الشرق الأوسط من دون حل للقضية الفلسطينية، والصين لديها مُبادرة عالمية اسمها "مُبادرة الحزام والطريق"، وهي مدخل الصين إلى العالم، ونجاحها يتوقّف على الاستقرار في المنطقة.
والمؤشر على ذلك أن الصين هي أول قوة عالمية تصدر بياناً متوازناً محايداً وأكثر عقلانية دون إدانة الهجمات الفلسطينية، ويحث الطرفين على التهدئة، ويعترف بحق فلسطين في إنشاء دولة لها بجانب إسرائيل.
فقد قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي، إن سبب الصراع بين إسرائيل وحركة حماس هو "الظلم التاريخي" على الفلسطينيين، وذلك خلال لقائه أخيراً مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي في بكين.
وقال وانغ بعد اجتماعه مع جوزيب بوريل، إن "جذر هذه المشكلة يكمن في التأخير الطويل في تحقيق تطلعات فلسطين لإقامة دولة مستقلة، وفي أن الظلم التاريخي الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني لم يتم تصحيحه".
ويوم الأربعاء، رفض مجلس الأمن الدولي مشروع قرار أميركياً بشأن الوضع في غزة لم يتضمّن دعوة إلى وقف إطلاق النار، وذلك بعد استخدام الصين وروسيا حق النقض "الفيتو".
موقف الصين الثابت
يدعم الجانب الصيني بثبات القضية العادلة للشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه الوطنية المشروعة، وسيقف دوماً إلى جانب الشعب الفلسطيني، ويبذل جهوداً دؤوبة من أجل إيجاد حل شامل وعادل ودائم للقضية الفلسطينية في يوم مبكر؛ ويدعم بثبات إقامة دولة فلسطين المستقلة ذات السيادة الكاملة على أساس حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية؛ ويدعم الحفاظ على الوضع التاريخي القائم لمقدسات القدس؛ ويدعم حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة؛ ويدعم تعزيز الوحدة الداخلية الفلسطينية؛ ويدعم قيام فلسطين باستئناف مفاوضات السلام مع إسرائيل على أساس مبدأ "الأرض مقابل السلام" وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة و"حل الدولتين"، بما يحقق التعايش السلمي بين فلسطين وإسرائيل.